حكم قراءة البسملة في الفريضة (فتوى)
السؤال الذي طرحنا اليلة البارح حول من ترك البسملة عمدا
في الصلاة وما يثير ذالك من جدل بين جماعة المسجد
جائنا الرد من فضيلة الشيخ Mohamdi Tolba حفظه الله ورعاه:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين.
سألني أحد الإخوة ممن يحسنون الظن بي، لأن الله ستر عنهم جل عيوبي؛ أحسن الله إليّ وإليهم وسترني وإياهم بستره الجميل، وجعلنا وجميع إخواننا وأحبابنا ممن تبدل سيئاتهم حسنات… سألني هذا الأخ الكريم أن أحرر له مكتوبا في حكم قراءة البسملة في الفريضة؛ فبادرت إلى إجابته، امتثالا للأمر الصريح بالتبليغ وخوفا من الوعيد الوارد في كتم العلم.
ومن الشائع في بلدنا أن قراءة البسملة مكروهة، بناء على المشهور من المذهب المالكي، واعتمادا على قول الشيخ خليل رحمه الله في مختصره: “وكرها بفرض …” وعلى القول بالكراهة سار معظم شراح المختصر والرسالة؛ رغم أن صاحب هذه الأخيرة (ابن أبي زيد القيرواني) لم يصرح بالكراهة وإنما قال: “لا تستفتح ببسم الله الرحمن الرحيم في أم القرآن ولا في السورة التي بعدها”.
وهو نفس كلام المدونة التي عليها جل اعتماد المدرسة المالكية في المغرب، حيث لم تصرح بالكراهة؛ وإنما دل ما نقله ابن القاسم فيها عن مالك على اختيار ترك البسملة دون التصريح بكراهة قراءتها, حيث يقول: “وقال مالك: لا يقرأ في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم في المكتوبة، لا سرا في نفسه ولا جهرا. قال: وقال مالك: وهي السنة وعليها أدركت الناس، قال: وقال مالك في قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الفريضة، قال: الشأن ترك قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الفريضة. قال: لا يقرأ سرا ولا علانية لا إمام ولا غير إمام…”
وقد روي عن مالك في غير المدونة ما يدل على استحباب قراءة البسملة في الفرض والنفل، بل روي عنه الوجوب … قال عبد الكريم الرافعي في كتابه التدوين في أخبار قزوين: “ذكر يوسف بن علي جبارة الهذلي أبو القاسم في كتابه المعروف بالكامل أن نافعاً إمام أهل المدينة في القراءة لما قال إن السنة الجهر بالتسمية سلم له مالك بن أنس على علو رتبته ما قاله وقال كل علم يسأل عنه أهله”. وقال السخاوي: قد صح نصا أن إسحاق بن محمد المسي أوثق أصحاب مالك وأجلهم قال: سألت نافعا عن قراءة بسم الله الرحمن الرحيم فأمرني بها وقال أشهد أنها من السبع المثاني وأن الله أنزلها.
وقال في فتح الباري: “وروي عنه، أنه لا بأس بقراءتها في الفرائض والنوافل: ذكره القاضي إسماعيل في مبسوطه من طريق ابن نافع، عن مالك.”
وقال القرطبي في “المفهم” بعد أن ذكر أن مشهور مذهب مالك عدم القراءة بها في الفرض: “وروى عنه ابن نافع ابتداء القراءة بها في صلاة الفرض والنفل، ولا تترك بحال”.
وعلى هذا النهج سار بعض أئمة المدرسة المالكية في المغرب، ومنهم بعض شراح المختصر والرسالة، فاختاروا قراءة البسملة في الفرض، إما سرا وإما جهرا.
يقول عبد الرحمن بن القاضي الفاسي:
وجاز أن تقرأ في الصــــــلاة بكل حرف جاء عن الـــــرواة
في سورة الحمد لكل قاري كذلك في السورة لا تماري
ذكره ابن غازي شيخ العلما والنص لابن العربي فاعلـما
وهذا لفظه لدى التكميــــل مصرحا به فخذ تفصيلـــــي
وقال الدردير في الشرح الكبير: “قال القرافي من المالكية والغزالي من الشافعية وغيرهما: الورع البسملة أول الفاتحة خروجا من الخلاف. وقال الدسوقي في حاشيته عليه: “ابن عبد البر: وهذا هو المشهور عند مالك (أي الكراهة) ومحصل مذهبه عند أصحابه، وإنما كرهت لأنها ليست آية من القرآن إلا في النمل وقيل بإباحتها وندبها ووجوبها”. وقال النفراوي في الفواكه الدواني: “ولابن نافع قول بوجوبها كمذهب الشافعي وعند الإمام مالك إباحتها وعزي لابن مسلمة ندبها…”؛ وقال أيضا: “وكان المازري يأتي بها سرا فكلم في ذلك فقال: مذهب مالك كله على صحة صلاة من يبسمل، ومذهب الشافعي على قول واحد ببطلان صلاة تاركها، والمتفق عليه خير من المختلف فيه، وقد ذكر القرافي وابن رشد والغزالي وجماعة أن من الورع الخروج من الخلاف بقراءة البسملة في الصلاة.” وقال العدوي في حاشيته على “كفاية الطالب الرباني” للمنوفي: “ومحل كراهة البسملة على ما فيه عج إذا قرأها بنية الفرضية فقط أو النفلية فقط أو هما معا قصد الخروج أو لم يقصد أو لا نية أصلا، ولم يقصد الخروج، أما إن قصده في تلك الحالة فتنتفي.”
وقد ذكر السنوسي في كتابه المسمى “بغية المقاصد وخلاصة المراصد” أن لمالك قولا بوجوب البسملة، حيث يقول بعد أن ذكر أن في قراءة الفاتحة في الفرض أربعة أقوال: “أحد الأقوال الأربعة الوجوب وهو إحدى الروايتين عن مالك فيما نقله ابن رشد عنه ونقله المازري عن ابن نافع وعياض عن ابن مسلمة.”
ومن الواضح أن القول بالوجوب يفهم جليا من قول مالك الذي أوردناه آنفا، أنها ولا تترك بحال … ”
ومن المعلوم أن أصل الخلاف في هذه المسألة تضارب الأحاديث الواردة فيها واضطراب بعضها. وقد خص ابن حجر هذه الأحاديث ببحث مطول يمكن الاطلاع عليه في كتاب الصلاة من فتح الباري. ومن دقيق ما جاء في بحث ابن حجر أن ما جاء من أن رسول الله صلى عليه وسلم كان يبدأ صلاته بالحمد لله رب العالمين، إنما عبر به عن الفاتحة ولا يدل على خلوها من البسملة؛ يقول ابن حجر:” واختلف في المراد بذلك فقيل: المعنى كانوا يفتتحون بالفاتحة، وهذا قول من أثبت البسملة في أولها، وتعقب بأنها إنما تسمى الحمد فقط، وأجيب بمنع الحصر، ومستنده ثبوت تسميتها بهذه الجملة وهي “الحمد لله رب العالمين” في صحيح البخاري، أخرجه في فضائل القرآن من حديث أبي سعيد بن المعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن، فذكر الحديث وفيه قال: “الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني”.
كما أورد أيضا حديثا لنعيم المجمر قال: “صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن حتى بلغ ولا الضالين فقال آمين وقال الناس آمين، ويقول كلما سجد الله أكبر، وإذا قام من الجلوس في الاثنتين قال الله أكبر، ويقول إذا سلم: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم”. قال ابن حجر: “بوب النسائي عليه “الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم” وهو أصح حديث ورد في ذلك”.
وممن تصدى لمقارنة الأدلة في مسألة البسملة صاحب “عون المعبود” حيث يقول: “واعلم أنه قد اختلف في لفظ حديث أنس اختلافا كثيرا ففي لفظ : فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم؛ رواه أحمد ومسلم وفي لفظ : فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم رواه أحمد والنسائي على شرط الصحيح وفي لفظ: لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها رواه مسلم وفي لفظ: فلم يكونوا يستفتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم رواه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه، وفي لفظ: كانوا يسرون رواه ابن خزيمة قال الحافظ: والذي يمكن أن يجمع به مختلف ما نقل عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يجهر بها فحيث جاء عن أنس أنه كان لا يقرأها مراده نفي الجهر، وحيث جاء عنه إثبات القراءة فمراده السر، وقد ورد نفي الجهر عنه صريحا فهو المعتمد. وقول أنس في رواية مسلم: لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها محمول على نفي الجهر أيضا لأنه الذي يمكن نفيه، واعتماد من نفى مطلقا بقول: كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لا يدل على ذلك لأنه كان يفتتح بالتوجه وسبحانك اللهم وباعد بيني وبين خطاياي وبأنه كان يستعيذ وغير ذلك من الأخبار الدالة على أنه قدم على قراءة الفاتحة شيئا بعد التكبير، فيحمل قوله يفتتحون أي الجهر لتأتلف الأخبار”.
وقد لخص السيوطي أحاديث البسملة في شرحه للموطأ المسمى “تنوير الحوالك” حيث قال: “عن حميد الطويل عن أنس بن مالك أنه قال قمت وراء أبي بكر وعمر وعثمان فكلهم كان لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إذا افتتح الصلاة قال الخطيب البغدادي في كتاب الرواة عن مالك كذا رواه عن مالك كافة أصحابه موقوفا وكذا رواه غير واحد عن أبي مصعب عن مالك ورواه سليمان بن عبد الحميد البهراني عن أبي مصعب عن مالك عن حميد عن أنس قال صليت مع رسول صلى الله عليه وسلم فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم وصليت وراء أبي بكر فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم وصليت وراء عمر فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم وصليت وراء عثمان فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم قال الخطيب تفرد سليمان برواية هذا الحديث عن أبي مصعب هكذا مرفوعا وقال بن عبد البر هكذا هو في الموطأ عند جماعة رواته فيما علمت موقوفا وروته طائفة عن مالك فرفعته ذكرت فيه النبي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك بمحفوظ منه الوليد بن مسلم وأبو قرة موسى بن طارق وإسماعيل بن موسى السدي كلهم رووه عن مالك عن حميد عن أنس قال صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكلهم كان لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إذا افتتح الصلاة ورواه بن أخي بن وهب عن عمه عبد الله بن وهب حدثنا عبيد الله بن عمر ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة عن حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يجهر بالقراءة بسم الله الرحمن الرحيم قال وقد روي هذا الحديث عن أنس قتادة وثابت البناني وغيرهما كلهم أسنده وذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنهم اختلف عليهم في لفظه اختلافا كثيرا مضطربا متدافعا منهم من يقول فيه كانوا لا يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم ومنهم من يقول كانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم وقد قال فيه بعضهم كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم ومنهم من قال كانوا لا يتركون بسم الله الرحمن الرحيم ومنهم من قال كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين قال وهذا اضطراب لا تقوم معه حجة لأحد من الفقهاء. انتهى.
وأقول قد كثرت الاحاديث الواردة في البسملة إثباتا ونفيا وكلا الأمرين صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قرأ بها وترك قراءتها وجهر بها وأخفاها والذي يوضح صحة الأمرين ويزيل إشكال من شكك على الفريقين معا أعني من أثبت كونها آية من أول الفاتحة وكل سورة ومن نفى ذلك قائلا إن القرآن لا يثبت بالظن ولا ينفى بالظن ما أشار إليه طائفة من المتأخرين أن إثباتها ونفيها كلاهما قطعي ولا يستغرب ذلك فإن القرآن نزل على سبعة أحرف ونزل مرات متكررة فنزل في بعضها بزيادة وبعضها بحذف كقراءة “ملك” و “مالك” و “نجوى تحتها” و “من تحتها” في “براءة”، و “إن الله هو الغني الحميد” و “إن الله الغني” في سورة الحديد؛ فلا يشك أحد ولا يرتاب في أن القراءة بإثبات الألف و “من” و “هو” ونحو ذلك متواترة قطعية الإثبات، وأن القراءة بحذف ذلك أيضا متواترة قطعية الحذف، وأن ميزان الإثبات والحذف في ذلك سواء. وكذلك نقول في البسملة إنها نزلت في بعض الأحرف ولم تنزل في بعضها فإثباتها قطعي وحذفها قطعي، وكل متواتر، وكل في السبع، فإن نصف القراء السبعة قرأوا بإثباتها وبعضهم قرأوا بحذفها؛ وقراءة السبعة كلها متواترة، فمن قرأ بها فهي ثابتة في حرفه متواترة إليه ثم منه إلينا، ومن قرأ بحذفها فحذفها في حرفه متواتر إليه ثم منه إلينا. وألطف من ذلك أن نافعا له راويان قرأ أحدهما عنه بها والآخر بحذفها فدل على أن الأمرين تواترا عنده بأن قرأ بالحرفين معا كل بأسانيد متواترة فبهذا التقرير اجتمعت الأحاديث المختلفة على كثرة كل جانب منها وانجلى الإشكال وزاح التشكيك فلا يستغرب الإثبات ممن أثبت ولا النفي ممن نفى …”
وقد سلّم الزرقاني، وهو من أئمة المالكية، في شرحه للموطأ، بحث السيوطي هذا، قائلا: “والإنصاف قول السيوطي: قد كثرت الأحاديث الواردة في البسملة إثباتاً ونفياً، وكلا الأمرين صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قرأ بها وتركها وجهر بها وأخفاها …”
يستخلص مما تقدم أن:
1- البسملة آية من الفاتحة في خمس قراءات سبعية، هي قراءات كل من: حمزة والكسائي وعاصم وابن كثير ونافع.
2- أن أحاديث صحيحة وردت بقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم البسملة في الفرض.
3- أنه تم التوفيق بين الأحاديث المثبتة لها والأحاديث النافية لها، على سبيل الإثبات، ومن عدة أوجه.
4- أنه لا علم لنا بمن يقول ببطلان صلاة من قرأها، في حين أن الشافعي وغيره رأوا بطلان صلاة من تركها.
5- أنه روي عن مالك استحبابها؛ بل روي عنه وجوبها؛ ولم نجد له تصريحا بكراهتها. (يروى أن بداه رحمه الله سئل عن كراهة البسملة، فقال لا أعلم أحدا يكرهها إلا العفاريت)
وبناء على ما تقدم، يتضح أن من قرأ بإحدى القراءات المتواترة التي تعتبر البسملة آية من الفاتحة، ولم يقرأ البسملة، فقد ترك آية من الفاتحة؛ على أن المالكية (فضلا عن الشافعية) متفقون على أن من ترك آية من الفاتحة عمدا فقد بطلت صلاته… وما دامت البسملة آية من الفاتحة فإنه لا يتأتى تخصيصها بالإسرار في محل جهر، خاصة أنه ورد في السنة الصحيحة الجهر بها.
هذا إضافة لما ذكر من الاتفاق على صحة صلاة قارئها والخلاف في صلاة تاركها. وأن صلاة متفقا في صحتها خير من صلاة مختلف فيها.
والغريب في بلدنا خاصة، أننا نجد من ينكر صلاة من اتفق، إن لم أقل أجمع، على صحة صلاته؛ ولا نكاد نجد من ينكر صلاة من حكم بعض الأئمة ببطلان صلاته.
محمدي الطلبة