حديث الأربعاء في الذاكرة، سيدي محمد ولد سميدع

حديث الأربعاء
في الذاكرة،
سيدي محمد ولد سميدع
في هذه الأربعاء، أعود بكم إلى تدوينة كتبتها يوم 20 -10 – 2019 في دكار. أسمح لنفسي ب”تدويرها” لأضيف بعض المعلومات عن شخصية المناضل والقائد الملهم، سيدي محمد ولد سميدع، رحمه الله.
بادرت باغتنام فرصة وجودي بدكار لأسافر عبر الزمن. فاتجهت إلى جامعة دكار (Fann)، جامعة الشيخ أنتا اديوب الحالية، لتطير بي مركبة التفكير والذكريات إلى عهد الشباب والصبا. دخلت من البوابة الرئيسية للحي الفاتح على شارع “واكام” و وقفت أمام المبنى -أ- Pavillon A صعدتُ مع السلم حتى الطابق الثاني واتجهت صوب الغرفة A276.
هنا 1968-1970 سكنتُ مع الأخ سيدي محمد ولد سميدع حتى تاريخ رحيله، تغمده الله برحمته الواسعة. كنت طالبا في كلية الطب وهو في كلية الآداب.. وقفت حائرا أمام زحمة المشاعر والأحاسيس والذكريات. وأكثر ما هالني في اللحظة واستحوذ علي هو “سميدع” : شخصيته الفذة، حياته القصيرة سنّا والطويلة معنىً، إرادته الفولاذية، جديته الخارقة، معيشته الزاهدة، سلوكه الفاضل، نشاطه الكثيف، فكره الخصب، معشره الحلو.. كان قليل الأكل والنوم، متواضعا، متقشفا، ملتزما، صارما مع نفسه، منضبطا. والغريب في الأمر أنه كان مع ذلك كله كاتبا و أديبًا.. مولعٌ بالشعر و الأدب بشقيه الفصيح والحساني.
أذكر أنه ملأ جدران الغرفة بصور “الأقصى” و “كاسترو” و “اتشي كَفيرا” و “نايف حواتمه” و “جورج حبش” .. وكان كثير المطالعة والقراءة ومعه عشرات الكتب والجرائد والمجلات العربية.. يكره اللغة الفرنسية ولا ينطق بها إلاّ لضرورة قصوى.. لا يخاطبك إلاّ ب”الأخ” إلى درجة أننا كنا نسميه “الأخ” .
وكانت الغرفة A 276 ورشة عمل و مقرا رئيسيا لتحرير وطباعة وسحب وترجمة جريدة “الكفاح” الناطقة باسم الطلاب العرب. ويمكنني القول بأنني لم أر شخصا واحدا في دكار على الأقل يتعاون مع الأخ “سميدع” في إنجاز ذلك العمل الجبار. فهو المحرر والمترجم والطابع والساحب رغم ضعف بنيته و مرضه. لقد شخص الأطباء في مشفى “لدانتك” بدكار إصابته بتشمع الكبد قبل ذلك بسنة. وكانت أعراض المرض بادية على جسمه النحيل. شخصيا، كنت أحترمه وأشفق عليه، ولكني – مع الأسف – لم أكن على مستواه في الوعي و الفهم.
ورغم أني كنت أتقاسم مع “سميدع” نفس الغرفة، فإني لم أكن شريكا له ولا معاونا فيما يقوم به من نشاط وعمل.. أذكر أنه طلب مني مرة كتابة مقال عن “المرأة في المجتمع الموريتاني “.. كتبت المقال طبقا لتوجيهاته، ولكنه لم يرضه و أضاف له فقرات تشير إلى “الثالوث” المسلط على المرأة بحسب قوله: الامبريالية والإقطاعية وسلطان الزوج.. وكلفني ذات مرة بمهمة نقل كمية من “الكفاح” وتسليمها لأحد أصدقائه في انواكشوط.. نسيت من هو ..
وهنا أعود قليلا إلى الوراء لأقول إن همة “الأخ” لا حدود لها.. عام 1967، كنا معا في ثانوية نواكشوط. ذهب و اتصل بجميع أساتذة اللغة العربية و طلب منهم الاطلاع على نتائج الامتحانات والتمرينات الفصلية (مارس) لمعرفة المتفوقين. وعلى هذا الأساس جمع فريقا من 7 أشخاص، كنت من بينهم. وكلفنا بتحرير “جريدة” يدوية بعنوان “صفحات مدرسية”. نسيت أعضاء الفريق باستثناء الرئيس “سميدع” ومدير التحرير ؛ إسمه “الشيخ ولد عبد العزيز”.
واليوم، استجابة لطلبات وصلتني من بعض الزملاء والإخوة، أود إثارة موضوع مهم قد يفاجئ الكثيرين ؛ و هو أنّ “سميدع”، رحمه الله، توفى قبل أن يستقر على إيديولوجيا محددة أو يعتنق فكرا محددا. رحل و هو جذوة .. شهابٌ .. يتوقد من شجرة ثورية تضيئ المكان والزمان، بلا حطب محدد ولا وقود فكري معيّن. كان في الأساس “متمردا”، “ثائرا”، “وطنيا”، “عروبيا” من جملة “اليسار العربي” بمعناه الواسع القومي والديمقراطي؛ لم يكن “ماركسيا” ولا “اتروتسكيا” خالصا، ولم “قوميا عربيا” محضا، بل خليطٌ من ذلك كله، يميل إلى “الثورة المباشرة” – جماعات “الطوباماروس” les Tupamaros – من أمثال “اتشي گفارا” و رجال “مونكادا” و هم “فيدل كاسترو” و رفاقه. وكان شديد الإعجاب بثوار فلسطين “نايف حواتمه” و “جورج حبش” و “أبو جهاد”.. وتأتيه صحيفتا “الحرية” و”الثورة” بانتظام لا أدري من أين؟ أذكر أنه كان على صلة بطيف واسع من السياسيين. كنت أرى أحمد باب ولد أحمد مسكه يدخل عليه “وصمبا بالدي” (طالب من غينيا كوناكري هو رئيس اتحاد طلاب دكار)؛ إلاّ أن أقرب الناس إليه وأكثرهم تواصلا معه وانسجاما كان بلا شك بدن ولد عابدين، رحمه الله. ذلكم هو “سميدع ” كما عرفته. وقد رحل قبل أن ينتهي مخاضه الفكري.
ولذا، أقول دائما إن الحركة الوطنية الديمقراطية (mnd) انتزعت سميدع من الحركات القومية العربية و امتلكته “بالحيّازة” فقط. أجزم أنه لم يعتنق الفكر الماركسي الذي تأسس به و عليه حزب “الكادحين” بعد رحيله؛ إلاّ أنّ “ماكينة” الكادحين الإعلامية القوية استطاعت أن تضع “ميسمها” الخاص عليه بعد رحيله من خلال المرثية العصماء التي كتبها الشاعر أحمدو ولد عبد القادر، حفظه الله، والتي ضمنها “والرزء أثقل من جبال تيشانا” (سلسلة جبلية في الصين) قبل أن تتغير “تيشانا إلى “تاگانا”، و التغني بأمجاد الشاب الراحل و بطولاته ورمزيته في أناشيد الحزب لإرساء فكرة انتماء سميدع للكادحين إيديولوجيا .. هذا بالإضافة إلى دور “صيحة المظلوم” ومساهمتها في غرس الصورة “السميدعية” الكادحة في أذهان الشباب بإصدار كتيّب رائع عن حياته كل عام ملحقا بعدد شهر يناير … لولا ذلك المجهود الإعلامي الضخم لكان “سميدع” على حقيقته تراثا موريتانيا مشتركا لكل فصائل الحركة الوطنية المطالبة بالاستقلال الوطني والتعريب والحريات ودعم فلسطين والحركات التحررية والثورية في العالم.. صحيح أن الأخ سميدع حضر اجتماع “توكومادجي” الذي أسس لميلاد الحركة الوطنية الديمقراطية، إلاّ أن ذلك الاجتماع لم يتخل عن الفكر القومي العربي عموما ولم يعتنق الماركسية خصوصا، وبقى في طور المراجعة والبحث ..يضاف إلى ذلك أن حضور الأخ سميدع لاجتماع “توكومادجي” لم يمنعه من حضور اجتماعات سياسية وقومية ونقابية أخرى في زمن كانت الساحة الموريتانية تغلي في كل الاتجاهات..

محمد فال بلال

زر الذهاب إلى الأعلى