صدور كتاب :”الصراع اللغوي في المغرب العربي”للدكتور:نختير ولد الغوث
الحمد لله كما ينبغي لجلال الله. صدر عن دار صوفيا بالرياض والكويت كتابي “الصراع اللغوي في المغرب العربي”، وهو الكتاب السابع من سلسلة “الحرب الباردة على الكينونة العربية”، ويقع في جزأين (1024 صفحة)، وهو يباع الآن في معرض الكتاب الدولي بالرياض الذي افتتح اليوم (الخميس 13 من ربيع الأول 1445 هـ) مع سائر كتب الموسوعة، وقد درست فيه الصراع اللغوي في المغرب العربي بين العربية والفرنسية، والعربية الفصحى والعامية، والعربية والأمازيغية، فبيَّنت مجالات الصراع، ووجوهه، وأسبابه، ومقاصده، ودرست معه قضايا، ليست بلغوية، أرى أنها تُجلِّي حقيقته، وتبين أنه صراع هويات ووجود، يُسمَّى بغير اسمه، ومن غير الممكن أن تتضح ماهيته دون الحديث عنها. وجعلتُه في بابين: الصراع بين العربية والفرنسية، والفصحى والعامية، والصراع بين العربية والأمازيغية. وصدَّرت الباب الأول بتمهيد، بينت فيه أوجه التوافق والتخالف بين دول المغرب العربي في سياستها اللغوية، ثم دلفت منه إلى تأثر السياسة اللغوية بتوجه السياسيين الفكري، وعلاقتهم بفرنسة، ثم درست الصراع بين العربية والفرنسية في التعليم، والإدارة، والإعلام، والحياة العامة، وختمته بالصراع بين العربية الفصحى والعامية، وما يختلف فيه عن الصراع بينهما قديما، في الوطن العربي. أما الباب الثاني، واستحوذ على جل الكتاب، فالصراع المفتعل بين العربية والأمازيغية، وهو -في حقيقته- وجه من وجوه الصراع بين العربية والفرنسية، إذ كان غرضه إخراج العربية من المغرب بالأمازيغية، ثم إخراج الأمازيغية بالفرنسية، إذ كانت الأمازيغية أضعف من أن تثبت للفرنسية، أو تسدَّ مسدَّ العربية، وهذا هو غرض افتعال الصراع بين الفصحى والعامية. من أجل ذلك شرعتْ فرنسة مذ دخلت الجزائر في تعليم الأمازيغية والتعليم بها، والإغراء بتعلمها بالرواتب والعلاوات الجزيلة، وقرنت ذلك باستبدال الأعراف البربرية بالشرع؛ لتُباعِد بين البربر والإسلام، وفعلت مثل ذلك أو أشد منه في المغرب، فعزلت البربر عن العرب كما عزلت بريطانية جنوبي السودان عن شماليه؛ لتحول بينهم وبين الإسلام والتعرب. وخصتهم بمدارس، لا يدخلها غيرهم، لغتها الفرنسية، تيسيرا لاستلحاقهم، واستعانت على ما تريد بالمنصرين؛ ليغيروا هويتهم، ويقربوهم من فرنسة. وعملت على تأسيس حزب بربري في بلاد القبائل بالجزائر، لتضعف به حزب الشعب الجزائري الذي كان يحمل لواء جهادها، فرفع شعارات، تذم العروبة، والوطنية المبنية عليها وعلى الإسلام. ولما كانت فرنسة تخطط لاستلحاق البربر، وضم الجزائر إليها جزءا لا يتجزأ منها، كانت ترى أن ذلك لا يتأتى إلا بأن يكون للبربر مع الأوربيين أصل مشترك، يسوِّغ فرْنستهم، وييسر إخراجهم من الإسلام؛ فأشاعت أنهم جرمان، وأن تدينهم ظاهري، ويجب أن يعودوا إلى دينهم وثقافتهم قبل الإسلام، ويتميَّزوا من العرب المسلمين. ولما كانت العربية هي اللغة التي تجمع الجزائريين كلهم، وبها يتعلمون ويعلِّمون، ويتعبدون، ويديرون أعمالهم؛ عادتها فرنسة، ورأت أن تخرجها من الحياة بكل وسيلة، وأخذت منذ عام 1913 في تعليم البربرية بمعهد الدراسات الشرقية بباريس، بعد أن كتبتها بحروف لاتينية، ثم أعلنت أن العربية لغة أجنبية في الجزائر. واختلقت “البربر” بالمفهوم العرقي، بأنْ ضمت القبائل التي كانت تسكن المغرب قبل الإسلام بعضها إلى بعض، فجعلتها عرقا واحدا، يقابل العرب، بعد أن غبر الفريقان نحوا من أربعة عشر قرنا، وهم شعب واحد، دينه الإسلام، ولسانه العربية، وإسلامه هو الهوية التي يتعرَّف بها، ولا يفكر في غيرها، ولا ينتمي إليه. وقد اقتضتني تجلية هذه القضية، وبيان علاقتها بالصراع بين العربية والأمازيغية أن أتوقف عند نشأة الحركة الأمازيغية في المغرب والجزائر وتطورها، وكيف بذرت فرنسة بذرتها الأولى، ثم تعاهدتها قبل الاستقلال وبعده حتى أنشأت منها حركتين في البلدين، وأنشأت من أجلها الأكاديميات والمعاهد والمراكز التي تربُّها، وتلقِّنها ما تبغي استنباته فيها من أفكار، حتى استمكنت توجها عنصريا، يجدُّ في محو الإسلام والعروبة من المغرب العربي، والتعفية على آثارهما، واستبدال التاريخ البربري الوثني بهما، واستبدال الأمازيغية بالعربية. وعرضتُ للأكاديمية البربرية، وإنشائها، وما أرادت فرنسة من أن تكون مركز التخطيط لسياستها اللغوية في المغرب العربي. ووازنتُ بين الحركتين، من حيث النشأة والتطور، والمنهاج، وبينت ما تريان من أن البربرية هي هوية المغرب العربي، وهي التي كيفت روحه وفكره وصاغتهما، وما تطالب به من جعل البربرية لغة رسمية، وإيجاب تعلمها على المغاربة والجزائريين كافة، وهو ما استجاب له دستورا البلدين؛ لأنها تخطط لحمْل البلدين على الهوية البربرية، كما تفهمها، وردِّهم عن التعرب إلى ما كان عليه البربر قبل الإسلام. وناقشت ما ورد في نتاجهما المنشور من ذلك، وبينت ضعفه وضعف ما يبنى عليه، وأن الأمازيغية جزء من ثقافة المغرب العربي وليست هي هويته، إذ اللغة إنما تكون هوية بما توعي من الثقافة، والثقافة التي توعيها العربية والأمازيغية واحدة، هي الثقافة الإسلامية. وعرضت رأي الحركتين في اللغة الأمازيغية، وما تنسبان إليها من مزايا، فبينت أنما هي لغة من اللغات، ما كُتب بها علم ولا أدب، ولا اصطنعت لغة رسمية قبل عام 2011 في المغرب، و 2016 في الجزائر، وإنما كان البربر يستعملون لغات الدول التي تحكمهم، ويكتب بها مثقفوهم. وما كانت لهم في التاريخ لغة، تسمى الأمازيغية، تفرعت منها اللغات التي يتكلمون بها اليوم، وما زالت -كما كانت- لغات محلية، شديدة التفتت والتجزؤ، والفرع منها ينقسم إلى لغات، يَختلف في عددها الباحثون، وهي بقدر القبائل، وليس بينها من التشابه إلا ما يكون بين اللغات، تجمعها فصيلة، والفروق بينها كبيرة، ولا يتفاهم المتكلمون بها إلا بالعربية؛ من أجل ذلك ارتأت الحركتان في المغرب والجزائر أن تصنع كل منهما لغة لبربرها من لغاتهم، تضاهئ بها اللغة الفصحى، لتجمعهم عليها، وتطالبا حكومتي البلدين بجعلهما رسميتين؛ ثم نزعتْ الحركة الجزائرية عما كانت تزمع، لمَّا تبين لها أن التفكير في صنع اللغات تفكير خرافي، ولن يترتب عليه -إن كان- إلا قتل اللغات الطبيعية؛ فانصرفتْ عنه إلى الاقتصار على لغة القبائل وحدها، وتمادت الحركة المغربية في صنع لغة من لغات بربر المغرب الثلاث (الريفية، والصنهاجية، والشحية)، غير عابئة بعذل العاذلين. وعرضتُ لتيفيناق وأوجزت ما قالت فيها الحركة، وبينت أنها هجاء فينيقي عربي، اصطنعه بعض توارق الصحراء، ولم يصطنعه غيرهم من البربر، ولا كتب بها شيء من تراث المغاربة، وأن ليس للبربر هجاء غير الحرف العربي، فهو الذي كتب به ما كتب من تراثهم، وبينتُ فضله على تيفيناق والحرف اللاتيني، وصلاحيته لكتابة الأمازيغية، وسبب إصرار الحركة على اصطناع تيفيناق، مع أن غيرها خير للغتها وللمغرب كله. وبينت رأي الحركة في التعريب، وما ترى من أنه جريمة، وإبادة ثقافية، غايته تعريب البربر، مع أن التعريب كانت له غاية واحدة، هي أن يعيد العربية إلى ما كانت عليه قبل الاستعمار الفرنسي. وبينت ما في خطاب الحركة من حرص على مفاصلة مواطنيها في كل ما يجمعها وإياهم، كالدين، واللغة، والتاريخ، والهجاء، والأعياد والمناسبات، والرغبة عن ملاقاتهم على كلمة سواء، ينال فيها كل حقه، كما تفعل شعوب العالم، على ما قد يكون بينها من تخالف في الملل والنحل. وتحدثتُ عن نظرتها إلى العرب والتاريخ الإسلامي وما فيها من تحامل، وأن ما تقول فيهما ليس إلا تردادا لما كتب الفرنسيون بحرفه. ثم عرضت لعروبة البربر، فناقشت قضية نسبتهم إلى الكنعانيين والحميريين، وهجْرتهم إلى المغرب من فلسطين واليمن، وأدلتها التاريخية والأثرية والإناسية واللغوية، وبينت أنها ليست حكايات، قاله العرب الأولون، فرددها المعاصرون، وإنما هي خلاصة ما انتهت إليه دراسات علمية كثيرة معمقة، قامت بها فئة كبيرة من الباحثين المخصين في التاريخ واللغة، من العرب والبربر والأوربيين والفرنسيين، لا يُزَنُّ بعضها بالتعصب للعرب، ولا بالحرص على وحدتهم هم والبربر. وإنما عرضت لهذا الموضوع لأن الاستعمار لما أراد شقَّ أهل المغرب والجزائر، ارتجل للبربر نسبا جرمانيا، يتوسل به إلى إخراجهم من الإسلام، كما أشار عليه بذلك المنصر الفرنسي الشهير شارل دو فيكو: “قولوا للبربر إنهم غير عرب، يرتدوا عن الإسلام”، فأردتُ لأبين قوة الأدلة على عروبة البربر، وأعيد إليها من الاعتبار العلمي ما أراد الاستعمار الفرنسي أن يسلبها. وختمت الكتاب بخاتمة، بينت فيها تناقض فرنسة إذ تحرِّم التعدد اللغوي فيها، وهي أشتات من الشعوب، لها من اللغات ما هو آصل وأعرق من الفرنسية، وتجتهد في تقسيم ما تستعمر من البلدان، وتشتيت شمل شعوبها، وزرع العداوات بينها، ونبش ما رمَّ من لغاتها في القبور، وتعديد ما اتحد، وجمع ما افترق، لتوقد به نار العداوة بينها، بقدر جدِّها في توحيد شعبها على لغة واحدة، وكان ينبغي أن تقتدي بها في ذلك مستعمراتها، بدلا من إلقائها المقادة إليها، لتفتتها، وتصوغ العلاقات بينها كيف شاءت.
الدكتور:نختير ولد الغوث