العولمة بين العقل التاريخي والوجدان التاريخي بقلم الاستاذ الدكتور وليد عبد الحي

العولمة بين العقل التاريخي والوجدان التاريخي
بقلم الاستاذ الدكتور وليد عبد الحي
إذا سلمنا بأن اقدم الحضارات (ما بين النهرين 3500-4000 قبل الميلاد ،مصر القديمة 3100 قبل الميلاد، الهند القديمة 3100.ق.م، الصين القديمة 2000 ق.م ، والانكا 1200 ق.م والحضارة الاغريقية 1200 ق.م والرومانية القرن الثامن ق.م) لم تكن تتواصل أو تترابط مع بعضها الا في قدر محدود جدا سواء تجاريا او بشريا او معرفيا، ويكفي معرفة ان المسافة الزمنية الفاصلة بين اول اتفاقيتين بين كيانين كان 842 سنة( الاولى في بلاد ما بين النهرين والثانية بين الفراعنة والحثيين)، ثم بدأ ظهور الحضارات الدينية الصرفة الكبرى ، والتي عملت على نشر دين كل منها عند الآخرين وهو ما عزز التواصل بين الحضارات سلما او حربا.
خلال هذه الرحلة الحضارية تشكل لكل حضارة “هوية” لها منظومة قيمية تميزها عن غيرها، لكن التواصل بين الحضارات أفرز المقارنة بين اتباع كل حضارة مع الحضارات الاخرى، وهنا بدأت هذه الحضارات تتصارع حول النموذج الافضل بينها ولكنها في ذات الوقت تُدْخل في نسيج حلتها بعض خيوط نسيج الحضارات الاخرى، وهنا بدأت العولمة رحلتها وظهرت ثنائية الهويات الحضارية من ناحية والحضارة الانسانية من ناحية ثانية، وفي تقديري ان تطور سبل المواصلات( من الساقين الى تدجين الحيوانات للتنقل الى العربة الآشورية وصولا للسيارة والقطار والطائرة الكنكورد) والاتصالات(من الحمام الزاجل الى الانترنت (اي التكنولوجيا) هي السبب المركزي وراء هذه الثنائية، وكلما اتسعت دائرة الاتصال بين الحضارات والشعوب اتسع ادراك نقاط التباين والتنافر ونقاط التلاقي والتلاقح المعرفي ، فالجانب الأول (التباين والتنافر) شكله الوجدان التاريخي ، اي منظومة القيم الذاتية او الهوية الحضارية التي تأخذ من الآخرين ما يتسق مع قيمها العليا ، واحيانا تتشابه فيما بينها لأن الجميع بشر (فالغورو في الهندوسية لا يختلف الا في بعض التفاصيل عن الامامية الشيعية أو خيط النسب القبلي عند العرب) وتنتقل الخبرات من انحاء ذات الحضارة لبعضها في الحيز الثقافي الذي يعبر عن جوهر الوجدان في الحضارة ، فما الذي صنع هالة وجدانية للسيد البدوي او عبد الرحيم القناوي في مصر وهم مغربيان، او المرسي ابو العباس وهو اندلسي أو علي بين ابي طالب والثقافة الفارسية التي يملأ وجدانها ثقافة ” البطل المغدور” ، ولماذا نسج الفارابي مدينته الفاضلة بمنهجية افلاطون بينما اعاد دانتي في الكوميديا الالهية رسالة غفران ابي العلاء المعري الذي هدم الداعشيون تمثاله في سوريا؟ انه الانجذاب الى التلاقي الوجداني الانساني ، وهنا نجد هذا الوجدان التاريخي يأخذ شكل المنهج التوفيقي بين معطيات الحضارات في المواقع التي لا تمس القيم العليا للمنظومة القيمية لكل حضارة.
مقابل ما سبق ، هناك العقل التاريخي ، اي العقل الذي يرى في الصراع أداة ايجابية وينظر لتراتبية المنظومات القيمية التاريخية من منظور الاعلى والادنى، وضرورة اكراه الأخر على تبني ما هو أعلى من وجهة نظره ، وتكاد ان تكون الحضارات الدينية والاغريقية والرومانية هي التجسيد لكل هذا ،دون نفي ان كل حضارة ترى في هذه التراتبية انها هي الأعلى ( الرومانسية الحضارية)، فهل هي صدفة ان مقارنات ارسطو للدساتير ولدت صراعا بين النظم السياسية، وان داروين بنى نظريته على الصراع مع الطبيعة ،وماركس بناها على الصراع بين الطبقات، ولم ير فرويد الا بناء نفسيا ينطوي على صراع بين الأنا والانا العليا والهو…الخ.
ذلك يعني أن الوجدان التاريخي( المنظومات القيمية الخاصة) تواجه في كل مرحلة العقل التاريخي( نتائج التغير وادراك قوانين التغير)، ويترتب على هذه المواجهة أخذ وعطاء من ناحية وصراع دموي من ناحية ثانية، ومن يحرك هذه المواجهة بين العقل التاريخي والوجدان التاريخي هي العولمة عبر تطوير وسائل الاتصال والمواصلات، فلم تعد المسافة والزمن متغيرين مانعين، ويكفي ان نعرف ان هناك الآن:
أ‌- 300 منظمة دولية تنسج خيوطا مشتركة بين الدول عابرة للوجدان التاريخي
ب‌- 40 الف منظمة دولية غير حكومية تنسج بين المجتمعات خيوطا عابرة
ت‌- 60 الف شركة متعددة الجنسيات ولها اربعمائة الف فرع تنسج خيوطا اقتصادية غير عابئة بالوجدان التاريخي.
ث‌- هناك 29 الف و 257 جامعة تعلم طلابها نفس المعلومات في كل تخصص ، مما يخلق منظومة معرفية متقاربة عند الجميع.
واعتقد بقدر كاف من الجزم أننا نسير في اتجاه استمرار المزاحمة بين الخاص (الوجدان التاريخي) وبين العام(العقل التاريخي)، واراهن على انتصار الثاني، ولكن بعد الف معركة يتشقق فيها الوجدان التاريخي بدم ودموع تباعا ويطوف العقل التاريخي في “مُسَيّراتٍ ” جوية وبرية وبحرية وقهقة من روبوتات تمسك بالمقود…ربما.

زر الذهاب إلى الأعلى