الحرب الباردة على الكينونة العربية
الحمد لله كما ينبغي لجلال الله، صدرت عن دار صوفيا بالكويت، الطبعة الثانية من موسوعتي “الحرب الباردة على الكينونة العربية”، في ستة كتب، آخرها “مسخ الهوية” ولم ينشر من قبل ويقع في 670 صفحة، وقد درست فيه بعض ما نال العربية في هذا العصر من تغيُّر، بحذوها على اللغات الأوربية، مبنًى ومعنًى. وقدَّمت بين يديه مدخلا، بينت فيه ارتباط اللغة بأهلها على كل حال يكونون عليه، وكيف كانت العربية في الجاهلية، وكيف صارت في الإسلام، وما انتهت إليه في عصور الضعف، من تأثر بالتركية تأثرا أعلَّها، وبدَّل حسنها، ثم تماثُلها من علتها في القرن الرابع عشر الهجري، ثم ما آلت إليه بحذوها على الإنجليزية والفرنسية، وعلاقة ذلك بما لبس العرب من قشرة حضارة الغرب. ثم درست الدخيل، وغلبته على ألسنة المثقفين والعلماء، وأسباب ذلك النفسية والحضارية، واستعلانه في الحياة العامة: الأسواق، والشوارع، وأسماء المتاجر، والسلع، والفنادق، والمطارات، والمطاعم، والتعليم، والتقنية، إلخ. وبسطت آراء اللغويين المحدثين فيه، وناقشتها، ووازنت بينها وبين آراء شعوب العالم، وما يشبه الإجماع منها على الضيق به، والجدِّ في دفعه، وعدِّه تهديدا لاستقلالها، وعدوانا على هويتها، وسَنِّ القوانين الصارمة لمنعه، والجدِّ في إمضائها. وبيَّنت ما يُخشَى منه على العربية من تهجين، أخذ يستعلن في كلام المتكلمين، ومؤلفات المؤلفين، وأحاديث المذيعين، ومحاضرات الأساتيذ الجامعيين. وعرضت لما جدَّ من ازدواج لغوي في حياة العرب بعد الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، وتقسيم ما يكتب في كل شأن من شؤون العرب بين العربية والإنجليزية، في الأوراق الرسمية وشبه الرسمية، من أسماء الإدارات، والوزارات، والمتاجر، والشركات، والمؤسسات، وألواح الإرشاد في الشوارع، إلخ.
وعرضت للعربيزي، وهي ضرب من الكتابة، يمزج العربية بالإنجليزية أو الفرنسية، ويستعمل الحروف اللاتينية والأرقام الأجنبية فيما يكتب من الكلام العربي، أو الكلام الهجين، وذكرت تسمياتها ومعانيها، وأسباب ظهورها، ومضارَّها على العربية، وهجْر المعجم العربي، وما يَحتجُّ به هاجروه من غرابة بعضه، وما تبع هجرَه من نسبة العربية إلى العجز عن البيان عن مفهومات العلم الدقيقة، وتسويغِ التوسع في استعمال الدخيل، وعدم التحرج منه، وعده السبيل الأوحد إلى سد ما بها من نقص. وناقشت تلك المسوغات، وأبنت عما بُنِيَتْ عليه من قلة زاد من العربية. ودرست تبديل دلالة الكلم العربي، بتفريغه من معانيه، وحشوه بمعاني الكلم الأجنبي، من غير صلة بينهما، تسوغ ذلك، إلا أن المعجمات المزدوجة تترجم أحدهما بالآخر ترجمة حرفية، وتسمية المعاني بغير ما اصطلَح عليه العرب من الألفاظ ملاحظةً لتسميتها في الإنجليزية والفرنسية. أي إن الألفاظ العربية أُسكِنَ فيها غير معانيها، والمعاني أُلبست غير أرديتها؛ فكان من ذلك ما لا يُبين من الكلام، واستُبدلت الثقافة الإنجليزية والفرنسية بالثقافة العرببة؛ فتأثر الفكر بالفكر، والشعور بالشعور، والذوق بالذوق، وتبدَّلَ مرجع العربية الثقافي؛ فغدت أطلالا، وهيكلا خاويا، واتَّسمَ ما يُترجَم إليها بالغموض، وصعوبة الفهم، وصارت العربية عربيتين: عربية تراثية، وعربية حديثة، لا يفهمها إلا عارف بالإنجليزية أو الفرنسية؛ فعزف كثير من العرب عن قراءة ما يُكتَب بها؛ لأنهم لا يفهمونه، وليست بينهم وبينه روابط ثقافية، واقتصروا على ما يكتب باللغة التراثية؛ لأنه هو ما يفهمون.
ودرستُ مسخ المباني، وعَنَيْتُ به التصرف في الكلم والأساليب تصرفا لا وجه له، بحذوها على الكلم والأساليب الأجنبية، كأن يزاد في الكلمة ما يزاد في مرادفتها الأجنبية من سوابق ولواحق، ويزاد في الفعل وما يُشتَقُّ منه ما لم يكن يزاد فيه، ليترجم به فعل من لغة أجنبية، وتذكَّر الكلمة أو تؤنَّث لأن مرادفتها الأجنبية تذكَّر أو تؤنَّث، والغلو في الاشتقاق من الأسماء الجامدة كما تَشتَقُّ منها الإنجليزية والفرنسية، والتكثر من النحت، والإتيان منه بكل غريب، على ما فيه من تنافر، وغموض، ومخالفة لأوزان العربية، والتكثر من التركيب المخالف لسنن التركيب في العربية، بحذوه على التركيب الفرنسي والإنجليزي، وحذو الجملة العربية على الجملة منهما، وكثرة الفضول بسبب الترجمة الحرفية، وقلةِ العلم بالعربية، والتكثر من جمع ما ليس من دأب العربية أن تجمعه من الأسماء، كالمصادر، وأسماء الجنس التي يغني مفردها عن جمعها، والإفراط في النسب لغير حاجة، والإفراط في استهلاك المجاز والعبارات العتيدة، على وجه جعل كل ما يدرُج على أقلام العرب وألسنتهم مترجما ترجمة حرفية من الإنجليزية أو الفرنسية، ولا عربي منه إلا حروفه، وحذو النص العربي على النصوص المكتوبة بالفرنسية والإنجليزية في كل شيء، وأسباب ذلك. وعرضت للترجمة وما تركت من سيئ الأثر في العربية، وبينت سبب قلة تأثيرها قديما في العربية، وشدة تأثيرها فيها في هذا العصر، وكيف بدأت في عهد محمد علي باشا، وما انتهت إليه في هذا العصر، وأوردت نصوصا مترجمة من اللغات الأجنبية، بيَّنت ما صنعت بها الترجمة الحرفية غير العالمة، وكيف حالت دون فهمها وفهم ما شاكلها من النصوص المترجمة ترجمة مثلها، وما أدخلت على العربية من ضيم. وألممت بعربية المغرب العربي، فبينت أهم سماتها، وما تخالف فيه عربية المشرق، ودرست بغاية الإيجاز لغة ثلاثة من كتَّابه المشهورين، دراسة بيَّنت ما فيها من واضح الأدلة على قلة الزاد من العربية؛ لأدلل على أن ذلك هو سبب تأثرهم غير المحمود بالفرنسية. وإنما خصصت أهل المغرب العربي لأن الاستعمار الفرنسي ألزمهم لغته وحال بينهم وبين لغتهم؛ فكان تأثرهم بالفرنسية أشد من تأثر سائر العرب بما تعلموا من اللغات الأجنبية. وتعمدت التكثر من الأمثلة والشواهد في كل ما عرضت له؛ ليكون عملي عملا تطبيقيا؛ فإن ذلك هو الذي يعين على ما أردت من بيان ما انتهت إليه العربية في هذا العصر. وربطت ما صارت إليه بما صارت إليه ثقافة العرب من تشوه؛ لأبين أن اللغة ظِلُّ الثقافة ولسانها، وما كان العُود ليكون على حال ويكون الظل بخلافه، ولا القلب لينعقد على شيء ويدل اللسان على غيره.
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينفع به وبسائر كتب الموسوعة، وأن يتقبلها بقبول حسن، ويجعلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يمدني من الصحة والعزم والتوفيق بما أتم به ما بقي منها.
البروفسور نختير ولد الغوث