فى اليوم الذى اعتنقت فيه الإسلام…
فى اليوم الذى اعتنقت فيه الإسلام قدَّم إليّ إمام المسجد كتيباً يشرح كيفية أداء الصلاة. غير أنى فوجئت بما رأيته من قلق الطلاب المسلمين، فقد ألحوا على بعبارات مثل: “خذ راحتك”، “لا تضغط على نفسك كثيرا”، “من الأفضل أن تأخذ وقتك”، “ببطء، شيئا فشيئا”. وتساءلت فى نفسى: هل الصلاة صعبة إلى هذا الحد؟ لكنى تجاهلت نصائح الطلاب، فقررت أن أبدأ فورا بأداء الصلوات الخمس فى أوقاتها. وفى تلك الليلة أمضيت وقتًا طويلاً جالسًا على الأريكة فى غرفتى الصغيرة بإضاءتها الخافتة حيث كنت أدرس حركات الصلاة وأكررها، وكذلك الآيات القرآنية التى سأتلوها، والأدعية الواجب قراءتها فى الصلاة. وبما أن معظم ما كنت سأتلوه كان باللغة العربية فقد لزمنى حفظ النصوص بلفظها العربى وبمعانيها باللغة الإنجليزية. وتفحصت الكتيب ساعات عدة قبل أن أجد فى نفسى الثقة الكافية لتجربة الصلاة الأولى.
وكان الوقت قد قارب منتصف الليل، لذلك قررت أن أصلى صلاة العشاء. ودخلت الحمام ووضعت الكتيب على طرف المغسلة مفتوحا على الصفحة التى تشرح الوضوء، وتتبعت التعليمات الواردة فيه خطوة خطوة بتأنٍّ ودقةٍ مثل طاهٍ يجرب وصفة لأول مرة فى المطبخ. وعندما انتهيت من الوضوء أغلقت الصنبور وعدت إلى الغرفة والماء يقطر من أطرافى، إذ تقول تعليمات الكتيب بأنه من المستحب ألا يجفف المتوضئ نفسه بعد الوضوء. ووقفت فى منتصف الغرفة متوجها إلى ما كنت أحسبه اتجاه القبلة. نظرت إلى الخلف لأتأكد من أننى أغلقت باب شقتى، ثم توجهت إلى الأمام، واعتدلت فى وقفتى، وأخذت نفسًا عميقًا، ثم رفعت يدى براحتين مفتوحتين، ملامسًا شحمتى الأذنين بإبهامى، ثم بعد ذلك قلت بصوت خافت: “الله أكبر”. كنت آمل ألا يسمعنى أحد، فقد كنت أشعر بشيء من الانفعال، إذ لم أستطع التخلص من قلقى من كون أحد يتجسس على.
وفجأة أدركت أننى تركت الستائر مفتوحة، وتساءلت: ماذا لو رآنى أحد الجيران؟ تركت ما كنت فيه، وتوجهت إلى النافذة، ثم جلت بنظرى فى الخارج لأتأكد من عدم وجود أحد. وعندما رأيت الباحة الخلفية خالية أحسست بالارتياح، فأغلقت الستائر وعدت إلى منتصف الغرفة. ومرة أخرى توجهت إلى القبلة، واعتدلت فى وقفتى، ورفعت يدى إلى أن لامس الإبهامان شحمتى أذنى، ثم همست: “الله أكبر”. وبصوت خافت لا يكاد يسمع قرأت فاتحة الكتاب ببطء وتلعثم، ثم أتبعتها بسورة قصيرة باللغة العربية، وإن كنت أظن أن أى عربى لم يكن ليفهم شيئا لو سمع تلاوتى تلك الليلة. ثم بعد ذلك تلفظت بالتكبير مرة أخرى بصوت خافت، وانحنيت راكعا حتى صار ظهرى متعامدا مع ساقى واضعًا كفى على ركبتى. وشعرت بالإحراج، إذ لم أنحن لأحد فى حياتى. ولذلك فقد سررت لأننى وحدى فى الغرفة. وبينما كنت لا أزال راكعا كررت عبارة “سبحان ربى العظيم” عدة مرات. ثم اعتدلت واقفًا وأنا أقرأ “سمع الله لمن حمده”، ثم “ربنا ولك الحمد”.
أحسست بقلبى يخفق بشدة، وتزايد انفعالى عندما كبَّرت مرة أخرى بخضوع، فقد حان وقت السجود. وتجمدت فى مكانى بينما كنت أحدق فى البقعة التى أمامى حيث كان على أن أَهْوِى إليها على أطرافى الأربعة وأضع وجهى على الأرض. لم أستطع أن أفعل ذلك. لم أستطع أن أنزل بنفسى إلى الأرض. لم أستطع أن أذل نفسى بوضع أنفى على الأرض، شأن العبد الذى يتذلل أمام سيده. لقد خيل لى أن ساقى مقيدتان لا تقدران على الانثناء. لقد أحسست بكثير من العار والخزى. وتخيلت ضحكات أصدقائى ومعارفى وقهقهاتهم، وهم يراقبوننى وأنا أجعل من نفسى مغفلاً أمامهم، وتخيلت كم سأكون مثيرا للشفقة والسخرية بينهم، وكدت أسمعهم يقولون: “مسكين جفري! فقد أصابه العرب بمسٍّ فى سان فرانسيسكو. أليس كذلك؟”. وأخذت أدعو: “أرجوك، أرجوك، أَعِنِّى على هذا”. أخذت نفسا عميقا، وأرغمت نفسى على النزول.
الآن صرت على أربعتى، ثم ترددت لحظات قليلة، وبعد ذلك ضغطت وجهى على السجادة. أفرغت ذهنى من كل الأفكار، وتلفظت ثلاث مرات بعبارة “سبحان ربى الأعلى”. “الله أكبر”: قلتها ورفعت من السجود جالسا على عقبى، وأبقيت ذهنى فارغًا رافضًا السماح لأى شيء أن يصرف انتباهى. “الله أكبر”، ووضعت وجهى على الأرض مرة أخرى. وبينما كان أنفى يلامس الأرض رحت أكرر عبارة “سبحان ربى الأعلى” بصورة آلية، فقد كنت مصمما على إنهاء هذا الأمر مهما كلفنى ذلك. “الله أكبر”، وانتصبت واقفا فيما قلت لنفسى: لا تزال هناك ثلاث جولات أمامى. وصارعتُ عواطفى وكبريائى فيما تبقى لى من الصلاة. لكن الأمر صار أهون فى كل شوط حتى إننى كنت فى سكينة شبه كاملة فى آخر سجدة. ثم قرأت التشهد فى الجلوس الأخير، وأخيرا سلمت عن يمينى وشمالى. وبينما بلغ بى الإعياء مبلغه بقيت جالسا على الأرض، وأخذت أراجع المعركة التى مررت بها. لقد أحسست بالإحراج لأننى عاركت نفسى كل ذلك العراك فى سبيل أداء الصلاة إلى آخرها. ودعوت برأس منخفض خجلاً: “اغفر لى تكبرى وغبائى، فقد أتيتُ من مكان بعيد، ولا يزال أمامى سبيل طويل لأقطعه”.
وفى تلك اللحظة شعرت بشيء لم أجربه من قبل، ولذلك يصعب على وصفه بالكلمات، فقد اجتاحتنى موجة لا أستطيع أن أصفها إلا بأنها كالبرودة، وبدا لى أنها تشع من نقطة ما فى صدرى. وكانت موجة عارمة فوجئت بها فى البداية حتى إننى أذكر أننى كنت أرتعش. غير أنها كانت أكثر من مجرد شعور جسدى، فقد أثّرَتْ فى عواطفى بطريقة غريبة أيضا. لقد بدا كأن الرحمة قد تجسدت فى صورة محسوسة، وأخذت تغلفنى وتتغلغل فى. ثم بدأت بالبكاء من غير أن أعرف السبب، فقد أخذت الدموع تنهمر على وجهى، ووجدت نفسى أنتحب بشدة. وكلما ازداد بكائى ازداد إحساسى بأن قوة خارقة من اللطف والرحمة تحتضننى. ولم أكن أبكى بدافع من الشعور بالذنب رغم أنه يجدر بى ذلك ولا بدافع من الخزى أو السرور. لقد بدا كأن سدًّا قد انفتح مُطْلِقًا عِنَان مخزون عظيم من الخوف والغضب بداخلى.
وبينما أنا أكتب هذه السطور لا يسعنى إلا أن أتساءل عما لو كانت مغفرة الله عز وجل لا تتضمن مجرد العفو عن الذنوب، بل وكذلك الشفاء والسكينة أيضا. ظللت لبعض الوقت جالسًا على ركبتى، منحنيًا إلى الأرض، منتحبًا ورأسى بين كَفَّى. وعندما توقفت عن البكاء أخيرا كنت قد بلغت الغاية فى الإرهاق، فقد كانت تلك التجربة جارفة وغير مألوفة إلى حد لم يسمح لى حينئذ أن أبحث عن تفسيرات عقلانية لها. وقد رأيت حينها أن هذه التجربة أغرب من أن أستطيع إخبار أحد بها. أما أهم ما أدركتُه فى ذلك الوقت فهو أننى فى حاجة ماسة إلى الله وإلى الصلاة. وقبل أن أقوم من مكانى دعوت بهذا الدعاء الأخير: اللهم، إذا تجرأت على الكفر بك مرة أخرى فأمتني قبل ذلك، خلصنى من هذه الحياة. ومن الصعب جدا أن أحيا بكل ما عندى من النواقص والعيوب، لكننى لا أستطيع أن أعيش يوما واحدا آخر وأنا أنكر وجودك”.
برفيسور جيفرى لانج
استاذ الرياضيات بجامعة كنساس الامريكيه
وحاصل على الدكتوراه فى الفلسفه من جامعة باردو