حديث الأربعاء حاكم «ولد اعلِ بابِ»

حديث الأربعاء
حاكم «ولد اعلِ بابِ»
14 يوليو 1978، أي 4 أيام بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس المختار ولد داداه رحمه الله، طردت من الفيلا الراقية التي كنت أسكن فيها، قبالة إدارة العقارات والبنك المركزي (îlot V). وحرمت من السيارة (504) وكل الامتيازات والتسهيلات التي كانت توفرها الوظيفة في وزارة الحزب. وجدت الأمر عاديا جدا في سياق تعليق العمل بالدستور، وحل الحزب والحكومة والبرلمان. هذا بالإضافة إلى أنني لم أحرك ساكنا باتجاه مجاملة السلطات الجديدة. لم أكن من الذين رحبوا بالانقلاب، ولم ترقني أناشيد الدعم والمساندة التي ملأت ما بين السماء والأرض.
بعد الانقلاب بأقل من سنة، وبالتحديد في يونيو 1979، تم تعييني حاكما لمقاطعة «ولد اعل باب» ضمن تحويلات واسعة في الإدارة الإقليمية.
وظيفة «حاكم» هي واحدة من أكثر وظائف السلطة راحة وسعادة في بلادنا. عندما يتم تعيينك حاكما يمكنك الذهاب مباشرة إلى موقع عملك باطمئنان واسترخاء. صلاحياتك واضحة، و امتيازاتك معلومة ومصونة. وستجد في انتظارك السكن والأثاث والاكسسوارات والماء والكهرباء والسيارة والسائق والحارس والطباخ والخدم. وإذا كنت ممن يقبلون تلقي الهدايا و «الكشوات»، فسيكون لديك ما يكفيك مؤنة شراء اللحم لبضعة أسابيع أو أكثر.
رغم كل هذه الإغراءات، تلقيت الخبر بشيء من الخيبة. لم أكن أتوقع مثل هذا التعيين، ولم أطلبه أبدا. كيف لمن كان مكلفا بمهمة في ديوان وزير دولة وأمينًا عاما لوزارة أن يرضى بمستوى حاكم في مقاطعة نائية. في أول وهلة، فكرت في الرفض، ثم ترددت قليلا، ثم تراجعت وقررت أن أتعامل بهدوء مع واقع الحال. لم يخفَ عليّ أن قرار التحويل – أو على الأصح قرار «الإبعاد» – جاء نتيجة موقفي السياسي من الانقلاب، وعليّ أن أتحمل تبعات ذلك. وفي مثل هذا النقاش الداخلي الحميم، كان عزائي في التحويل أني سوف أعود إلى «ولد اعل باب» التي عشت فيها جزءا من طفولتي.
وهكذا، بعد 20 سنة من مغادرة المدينة، عدت إليها من بوابة المطار في شهر أغشت 1979. وجدت في استقبالي رؤساء المصالح الإدارية والأمنية بالمقاطعة وبعض وجهاء المدينة. اتجهنا من المطار إلى دار الحاكم. أخذت أيامًا من الراحة، ثم ذهبت إلى المدرسة التي حصلت منها على شهادة الدروس الابتدائية ونجحت في كونكور 1959. جئتُ وقلبي مثقل بالحنين وضجيج الذكريات. تخيلت صوت الجرس، والصفوف، والأصدقاء، والألعاب، ومكان جلوسي، ويوم الامتحان، إلخ.. وتوهمت صورة أبي وبيده طبشور، على نحو قصيدة “محي الدين بن عربي”:
توهمت من أهواه خارج صورتي
فقدّرته في القربِ بالباعِ والشبر
وبعد المدرسة زرت المنزل الذي سكنا فيه 1957-1959. وقفت ببابه حيران، وما إن دلفت للداخل حتى غمرتني مشاعر دفينة وأحاسيس عجيبة. كل شيء في المكان وراءه قصة وشعور خاص. داخل هذه الجدران، تعلمت، وحلمت، وضحكت، وبكيت، واختبأت، وكذبت، واعترفت،،،
قضيت أسبوعي الأول في نعيم الذكريات والدعوات والحفلات. كانت الساكنة تنظر إلي بصفتي ابنا للقرية أكثر مما تنظر إلي بصفتي حاكما. وقد لخص أخي المحترم “عبد الله ولد سيديّا ولد أبنو”، حفظه الله، وكان آنذاك مساعدا لوالي «گيدماغه»، لخص الأجواء الرائعة والمبهرة في «أگلال» جميل جدا خلال أمسية غنائية تنعشها فرقة «سيدالّه ولد اعمر ولد دَيدّه»، قال:
شاهد ربِّي والحگْ/لُ
يانَ فالجاب احسابِ
ياذَا ما كنت انحجْ/لُ
مُحال افْ سَيلبابِ
لم يطل بي المقام في الإدارة الإقليمية. بضعة أشهر فقط، وانتهت مهمتي مايو 1980 .. ومنها إلى الشارع.

محمد فال ولد بلال

زر الذهاب إلى الأعلى