تصحيح الامتحانات الوطنية: الطرائق والآليات، بين القناعة والاقتناع…!!!
*تصحيح الامتحانات الوطنية: الطرائق والآليات، بين القناعة والاقتناع…!!!*
………….
استدعيت لتصحيح شهادة الدروس الإعدادية في مركز ثانوية البنات وتصحيح البكالوريا في المدرسة العليا للأساتذة سنة 1984..
في ثانوية البنات كان رئيس المركز مدير المؤسسة، غلام وزارة التهذيب المدلل ( *انيوكان دمبا*)، وهو رجل جاد إلى درجة الإزعاج، قليل الاهتمام بمظهره الخارجي، استطاع بصرامته وحدته أحيانا أن يسيطر على مؤسسة صعبة، هي ثانوية البنات، ولعل الأمر لا يتطلب جهدا كبيرا، فلا هو مهتم بهن، ولا يلتفت إلى جانبهن الأنثوي ولا هن راغبات فيه، فكل ما يبدو منه صارف لهن عنه فعاش بأمان واستطاع أن يبسط عليهن سلطانه دون مشقة..
توزع المصححون مجموعات وقيم بالتصحيح النموذجي،
وجيء بلوازم الاستراحة الصباحية مزيجا من اللبن واسبارك والخبز والزبدة..ولاحظ الزملاء أن المشرفين يحاولون أن يسْتبْقوا اللبن لأنه أغلى ثمنا، وأن يختار الأساتذة المشروبات الأرخص..
فانزوى أساتذة التربية الإسلامية والعربية واتفقوا على أن يختاروا جميعا اللبن لسببين، الأول أنه الفطرة، وقد اختاره صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، والثاني ليغيظوا به رئيس المركز الذي لم يستطع إخفاء استيائه من ذلك الاختيار…
انزويت مع زميلتي *امريش بنت عبد الحي* نصحح ببطء شديد، قد ينتهي اليوم قبل أن نكمل تصحيح خمس ورقات..كنا نتصبب عرقا وجزعا من الخطإ، فاضطررنا إلى تسجيل العلامات الجزئية تباعا على أوراق خاصة لأن أوراق الامتحان ينبغي أن تظل كما هي لا يمتد إليها لسان قلم…
صرت وزميلتي *امريش* ورطة لذلك المركز بعد أن أكمل الزملاء ما أسند إليهم من الأوراق وظللنا في بداية الطريق نتتبع السطور حرفا حرفا، ونقرؤها أحيانا بالتخمين والتأويل لرداءة الخطوط، وحرصنا على ألا نظلم تلميذا لسوء خطه..
ثم بدا للرهط من الأساتذة وهيئة الإشراف أننا صرنا آفة اقتصادية لأن المخصصات المالية المهيأة للاستراحة من المال العام أصبحت مهددة ببطئنا الشديد على النفاد، وذلك مقلق لمن ينتظرون الفضل ويعتبرونه مغنما يعلو ويهبط حسب عدد المصححين وسرعة التصحيح..
فريق من زملائنا كانوا يشون بنا لنعزل عن متابعة التصحيح وينوبوا عنا ويزدادوا كيل بعير، كان تعويض التصحيح في تلك الفترة يحسب بعدد الأوراق المصححة،
ولأول مرة سمعت بعض زملائنا يستحثنا على السرعة بعبارة(يا افلان ؤ يا افلانه شيشطو اعل اتواقط بالعجله أطلصون)..
في الأيام الأخيرة عشنا ما يشبه الحرب النفسية، التحق كل المصححين من مختلف التخصصات وهيئة الإشراف بنا في القاعة ليمارسوا علينا الضغط المباشر مع التلفظ بعبارات الامتعاض والشكوى والهزل أحيانا من هذا الجد الذي لن يعمر طويلا كما يزعمون، يقول بعضهم بطريقة مهموسة مسموعة (ألا مزالت كابظتهم كمبت ذ، حانِ اشوي ادور ذاك إزول)..
فرقت بيننا سبل العمل والتحقت زميلتي *امريش* بالوزارة لعلها في مصلحة الأشخاص وظلت سفيرة لي في كل ما يعني المؤسسات التي مررت به، لم أحتج للسفر ولا لدخول الوزارة لأنها كانت تنوب عني مكتفية باتصالي بها هاتفيا، فلها مني كامل الود والعرفان..
في ممرات الوزارة رأينا أستاذا تونسيا يستلم وثيقة تعويض عن التصحيح، ولما قرأها وجد أن المبلغ *خمس وسبعون أوقية*، فغضب، ثم قال للمسؤول: هذه الورقة وكتابتها أغلى من المبلغ الذي فيها، والذي يتطلب منه الذهاب إلى الخزينة العامة لاستلامه..
كنا نسافر إلى التصحيح ونصصح ولا نستلم أي تعويض، لا عن السفر ولا عن الإقامة…
اكتشفنا بعد أن كادت سنوات العمر المهني يأفل نجمها أن تلك التعويضات كانت تسلم لبعض مقتصدي انواگشوط ولا تسلم إلى أصحابها إلا في قابلٍ..
ولا يعقل أن يعود أساتذة الداخل من النعمه ولعيون وسيلبابي إلى انواگشوط لمبالغ لا تساوي عشر تذكرة السفر…
ومرت بنا فترات افتقدنا فيها استراحة الضحى فكنا نجمع تبرعات من الأساتذة لتعويض تكاليف الاستراحة وشراء الخبز والشاي وأجرة العامل اليدوي…
أما إذا ضاقت بأيدي بعضنا جيوبه، وهي تضيق في أغلب الأوقات، عمدنا إلى اللبن المجفف فيصنع العامل من صرة صغيرة صطلا من (ازريق)، ما لبنه أكثر من ذبابه، لا يتغير لونه ولا طعمه وكنا لو مكثنا إلى الظهر توضأنا منه لتوفر شروط الوضوء في مائه..
في إحدى المرات اقترح أحد العمال اليدويين أن يخرج بالصطل (ليُذَارِّيهِ) في الهواء حتى يبرد كما زعم فاسترقت إليه النظر من شباك النافذة فرأيته (يُبَژِّژُ) سليا بيديه لتمتزج بالماء، وهبت عاصفة فألقت كل أنثى من الشجر حملها في الصطل من (حب كيني) وأوراقها الذابلة، فصار العامل الهمام يستخرجها بيديه وينزلهما عميقا إلى القعر حتى لا تبقى منه رواسب..
ولم يكن الشاي أندى جبينا ولا أسبل عطفا من صنوه ولا أتقن عاملا لصنعته، فعدد الكؤوس لا يتجاوز الخمس، منها تليد تغطيه طبقات مختلفات من ران الرطوبة والغبار الندي فصار حكمه حكم الكحل إن لمس باليد صار حائلة، ومن الكؤوس الطارف، يخب خببا ليتدثر مثل سلفه بذلك الغطاء الجعد المتعدد الألوان..تتبادل على الكؤوس الخمس خمسون شفة تعب سائله الإسبركي اللون ويخيل إلى مرتشفه أنه حديث عهد بثلاجات البترول التقليدية..
تظل البراريد فاغرة أفواهها تكاد تلقي ما في بطونها من الفوران وإذا أنزلت قاءت كثيرا من سائلها فيلتفت العامل إلى الناس فإذا رآهم منشغلين عنه أعاد إلى البراريد ما سال منها ليطمئن على كفاية الكمية وتغطيتها لحاجة منتظريها..
ولو كنت ناصحا لحذرت من شرب شاي الملتقيات (والندويات) و(زريقها) وكل شراب يحضره التلميذ مهما كانت أخلاقه، في وعاء مفتوح…
الأستاذ الندب الأديب الأريب *المرتضى ولد محمد أشفاق..*