أول لقاء مع نزار 

أول لقاء مع نزار

اتذكر جيدا كيف التقيت نزار قبانى الشاعر الذى “ملأ الدنيا وشغل الناس”

كان لقاء طيبا وكان تماما كلقاء نزار بفتاة( الحمراء) هو أيضا “بلاميعاد”

كان لقاء لاينسى

ذات مساء من مساءات( كبة سيزييم) حيث يغسل نسيم البحر أصيلالا خطايا يوم أشهب من ايام ” إريفى” دخلت كوخا “زنكيا” من الأكواخ التى تستخدمها مدرسة( الشهيد) لاحتضان التلاميذ الفقراء الذين يعجزون عن التسجيل فى مدارس الحكومة أو القادمين من الريف يحتاجون دعما للتاقلم مع المدرسة النظامية

كانت مدرسة يديرها متطوعون من التيار الناصري يدرسون فيها يمولونها يجلبون لها السبورات والحصائر والطباشير

طبعا كانت مجانية وكانت اكواخها بائسة لاتكاد تحمينا من الشمس

كان الشباب الناصري يهتم بتلك المدرسة فكان أي واحد منهم لديه ظروف مناسبة يدرس المادة الأقرب لثقافته

ولم تكن الظروف المناسبة يومها صديقة للناصريين المطاردين يتخطفهم الموت والاعتقال وآذان الجدران و” عيونها”

لم تكن هناك مناهج ومقررات

لم نكن نعرف هل نحن فى السنة الخامسة ابتدائية أم الثالثة الإعدادية فنحن( نتزمبق) حسب درجة المدرس المتطوع ومادته ومستواه

تجاوزنا البرامج والمقررات فاخذنا حصصا تفوق اعمارنا ومستوياتنا ومداركنا كأننا أخذنا من كل علم بطرف

لاحقا اكتشفنا أنهم ساعدونا كثيرا ففى مراحل دراستنا النظامية وجدنا أنهم خزنوا فى ادمغتنا ملفات وجدناها أمامنا فى مدارس الحكومة فتفوقنا على اقراننا كثيرا

للأمانة لم ندرس فى( الشهيد) أي مقرر سياسي لم يدرسونا( فلسفة الثورة) ولا( الناصرية.. الفكر والممارسة ) ولا ( أسس) عصمت سيف الدولة

لكنهم زرعوا فينا قداسة الانتماء الوطني وعشق العربية والعروبة والانحياز للفقراء ورفض الظلم والحيف وقيم الولاء للدين والوطن والشعب

لنعد إلى مساء اللقاء بنزار

دخلت( القسم)

كنا حوالى12 من التلاميذ أولاد وبنات

جلست على الحصير وامامى دفترى وقلمى

كنا مهذبين يومها ومنضبطين

عكسا لماكنا عليه فى مدارس الحكومة

أمامنا وقف شاب نشط أنيق بدراعة زرقاء( معلكة) بعطر منعش

كتب على السبورة العجوز بخط جميل

(فى مدخل الحمراء كان لقاؤنا

ما اطيب اللقيا بلاميعاد

عينان سوداوان فى حجريهما

تتوالد الأبعاد من أبعاد )

إلى آخر رائعة نزار الخالدة

قرأ مدرسنا القصيدة مموسقة بحنجرة ندية فحلقنا معه نحو “الأندلس” و”غرناطة” و”قصر الحمراء” و”بنى أمية” و”طارق ابن زياد”

شرح لنا كل تلك “المفاتيح ”

حدثنا عن “نكبة الاندلس ” وعن خروج ” العرب” منها بعد أن ضجت بهم خيولا وسيوفا وعلوما وشعرا

فهمنا منه رغم ضيق مداركنا واخيلتنا يومها أن ” النكبة” مستمرة وانه لا خلاص مالم يعد العرب الآن أيضا للعالم خيولا وسيوفا وعلوما وشعرا

يومها كانت أول مرة اسمع عن نزار وشعره الصاخب

ولنزار ميزة لايملكها متقدم ولامتاخر من شعراء العرب وهي أنه يطل عليك بنفسه فى كل فاصلة وقافية ليستحثك على قراءة باقى فواصل وقوافى شعره كله

ورغم الرموز والايحاءات فإن شعر نزار قريب من النفس والروح سرعان ماتتشربه وتتقبله وتنتشى به ومعه

قصيدة ” فى مدخل الحمراء”

ملحمة بها حب وغزل وتاريخ وفكر وحزن وأمل وتساؤل وخلاصة لكل ذلك

فخلف “العينين السوداوين” و” الشعر الطويل اللاهث” سبعة قرون و سيف ومجن وفرس ورجل إسمه ” طارق ابن زياد”

يملك نزار قدرة عجيبة على حملك بهدوء بين سطور قصيدته من كهف حاضر مظلم إلى أفق تاريخ مضيئ

نعم يسير بك ونقطة المنطلق أمامه وليست وراءه

يخبئ السيوف فى عينين نجلاوين ويزرع باسقات النخيل فى غبار المعارك ويستل شعرة الأمل من عجين الياس والإحباط

نزار تقرأه قبل أن تقرأ شعره

يخيل لك أنه يفهمك قبل أن تبذل جهدا لمحاولة فهمه

شعره لايحتاج شرحا

عفوي كنظرات الأطفال أنيق كنسمات الفجر صاخب كموج البحر دافئ كأحضان الأمهات باسق كفارعات النخيل

سقى الله أيام( الشهيد) وزمنها( الناصري) الجميل

حبيب الله احمد

زر الذهاب إلى الأعلى