كيف تشكّلَ المجتمعُ الموريتاني وثقافتُه العالمة؟
كيف تشكّلَ المجتمعُ الموريتاني وثقافتُه العالمة؟
——–‐——————————–
كتب المرحوم محمد ولد مولود (الشنافي):
تأسست بنيةُ المجتمع الذي أقام لهذه البلاد مكوناتِ شخصيتِها على مراحل يتراءى لمتتبِّعها حصرَ أبرز الأحداث التي شهدتها في الأدوار التالية: بدْءُ التبشير بالإسلام، ثم حركة المرابطين، وتالياً انتشار اللسان العربي.
استهلت البلادُ طريقَها تحت أنوارِ أضخمِ معالم التاريخ، إذ وصلت طلائع الفتح العربي الإسلامي إلى الطرف الشمالي مما سيُدعى لاحقاً باسم بلاد شنكيطي، وقد حدث ذلك على عهد الخليفة هشام بن عبد الملك وولاية عبيد الله بن الحبحاب لإفريقية (116-123هـ/ 734-741م).
كان أول من اتصل به الغزاة هنالك قبائل من صنهاجة “أولي الضفائر، الملتزمين اللثام”، كما نعتتهم أقدم الروايات التي دونها الإخباريون ومؤلفو المسالك والممالك.
وقد اخترقت إحدى الحملات، تلك الأيام، الصحراءَ حتى بلغت مصب “النيل” لنهر السينكال في المحيط. وهكذا سجلت صفحات التاريخ، لأول مرة، ظهورَ هذه البلاد، علماً بخلو الأدبيات –اليونانية– اللطينية من ذكرها في الفترة السابقة.
تسربت بواكير الدعوة الإسلامية من الأقطار التي أصبحت تضمها دار الإسلام إلى ما وراءها من الصحراء، وسيكون الفضل في بث تعاليم الرسالة من نصيب التجار المسلمين المترددين، عبر مجالات صنهاجة، بين الشمال الإفريقي وبلاد السودان الغربي.
يلي هذا الدور في الأهمية قيامُ حركة المرابطين قبل ألف مضت من الأعوام، أي حوالي سنة 420هـ/1029م. وقد رافق نشأة المرابطين اعتناق مجاوريهم، أهالي سلى وتكرور، للإسلام، فكانوا لهم عوناً وظهيراً على مجابهة الأزمات التي عصفت بدعوتهم في مراحلها الأولى وأوشكت أن تقضي عليها. حفظ لنا هذا النبأَ الهامَّ نصٌ من رسائل أبي محمد علي بن أحمد بن حزم (توفي سنة 456هـ/ 1063م).
خلّف المرابطون في مجتمعنا سماتٍ ما تزال تميزه عن مثيلاته، ولم تع الذاكرة من هذا الحدث الجسيم إلا ما حاك الخيالُ الشعبي من مأثورات جاءت مخالفةً للواقع التاريخي، إذ أتت به مقلوباً رأساً على عقب، حيث جعلت المرابطين جماعةً من الغزاة يهجمون على مهدهم. وإطناباً في الغرابة، عزت إليهم تأسيسَ مجتمع مراتبي يتألف من شرائح حملت السلاحَ والمنقطعين إلى العلم وشؤون الدين وأتباعٍ أُسند إليهم تأمينُ وسائل العيش للطائفتين! وغني عن البيان أن المجتمع المتمثل في هذه الفئات كان وليد تأثيرات وصراعات تطلبت قروناً لتبرز إلى حيز الوجود.
وفيما يخص “الزوايا”، وهو جمع “مرابط” من غير لفظه في اللهجة كظاهرة، فقد كان إطلالهم على مسرح الواقع الاجتماعي نتيجةَ مسيرةٍ بطيئة. فاسم المرابطين ظل طيلة عصور يطلق على أعقاب المنتسبين إلى الدعوة التي نادى بها عبد الله بن ياسين، وكانوا في جملتهم محاربين حملةُ سلاح ولا علاقة لهم بما أصبح سمة لـ”الطلْبة”، كالتخلي عن حمل السلاح والتخصص بشؤون الدين، وبما يدعى “الهيمنة على المغيبات”.
اتجهت الحركة شطر الشمال وأقامت هناك الدولةَ التي تكفلت مدوناتُ التاريخ والأبحاث العصرية في شتى اللغات بالإشادة بأعمالها، وجرَّت في صفوفها حشوداً من بني جلدة القائمين بها ستستوعبهم الأقطارُ المفتوحة، ويبدو أنهم قد أهملوا جناحَهم المتبقي في مهدهم.
خَتم هذا المسلسلَ طروقُ ذوي حسان أطرافَ البلاد، ففي السنوات التي اشتد فيها ساعد المرابطين وشرعوا في الاستيلاء على المغرب، نجم من ناحية المشرق حدث سيكون له شأن في مصائر البلاد. كان ذلك “تغريبة” هلال وسليم ترافقهم طوائف من الأعراب من بينها معقل الذين ينتمي إليهم ذوو حسان. وبعدما يربو على قرنين وردت أقدمُ إشارة إلى اسمهم مقروناً باسم الساقية الحمراء (أواسط القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي).
وتقتضي قاعدةٌ مطردةٌ على قبيل الظواعن الذي تطأ أقدامُه منطقةَ “الساقية” متابعةَ سيره نحو الجنوب – من جراء سوء الحظ في الحروب أو على أثر التغيرات المناخية – حتى تنشب في أظفاره يوماً ما أشواك “إينيتي”، ذلك العشب النامي في القطاع المداري اللاصق بجنوب الصحراء، حيث انتشرت طوائف هؤلاء الأعراب على مراحل في أرجاء البلاد برمتها قبل نهاية القرن 9هـ/15.
وبذلك استكمل القطر عناصر سكانه، وحلت لهجتهم الحسانية محل اللهجات الصنهاجية (كلام ازناكة) في طول “تراب البيضان” وعرضها، فغدا اكتساب الدربة على إتقان الفصحى واستخدامها أيسر من ذي قبل.
وندرك أبعادَ هذا التحول الثقافي إذا ما عارضنا أسلوب مؤلفات علماء السوس وأدبائه، وما كتب فقهاء التوارك، بالدرجة العالية من تملك أمثالهم لدينا ناصية اللغة ومرونة الأداء بها، مما يتجلى في إبداع أدب عربي صميم، احتل مكانة مرموقة بين آداب هذه اللغة.
هكذا تم خلال هذه القرون التلاحمَ بين السابقين في الاستيطان والطارئين عليهم. وكما نفذت تعاليم الإسلام إلى أعماق القلوب وصبغت تنظيمات المجتمع وقيمه بمتطلباتها، أتاح التطورُ الذي عاشته الجماعاتُ نشأةَ المعارف المتداولة من علوم الدين والثقافة العربية ورسوخها.
وقد سار هذا النشاط جنباً إلى جنب مع التيار الصوفي الذي أخذَ شكل الطرق تجاوباً مع أذواق الجمهور، وذلك ما دعاه بعض الباحثين بظاهرة “التمربط”. ومن أوضح الأمثلة على المنحى الذي اتجه إليه التصوف أثناء القرنين التاسع والعاشر للهجرة/ الخامس عشر والسادس عشر للميلاد، انتشار شهرة “مرابطي الساقية الحمراء” (وهو اسم أطلق آنذاك على بلادنا ولم يكتب له البقاء)، وتنتمي إلى هؤلاء “المرابطين” عدة عشائر في قطرنا، كما خلفوا أعقابا –أو من يدعي ذلك– وصيتا على طول طريق الحج من السوس إلى طرابلس الغرب.
كان دور هؤلاء “المرابطين الجدد” بمثابة إسهام بلادنا في الحركة الواسعة التي شملت بلدانَ المغرب الإسلامي ووجهت مصيرَها الروحي والاجتماعي إلى أن تدخَّل الاستعمارُ الأوروبي في القرن 13هـ/19م. وكذلك نستطيع اعتبار هذا الدور بمنزلة إرهاصات لما سيقوم به علماءُ ومتصوفةُ بلدنا في حقبة تالية.
لا تتوفر معطيات يمكن على ضوئها تتبع مراحل سير الحياة الثقافية على طول الخطين: علوم الظاهر والتصوف. ونعثر بالصدفة على اسم مريد شنكيطي أخذ عن الشيخ أحمد زروق، أحد أقطاب الشاذلية (846-899 إلى القرن 10هـ/16م). ولدينا إشارات إلى فقهاء عاشوا في ولاته ووادان تعود إلى القرن 10هـ/16م، ونلمس، على ما يتراءى لنا، درجةً من الاكتفاء بَلغتْها البلادُ في مجال العلوم المتداولة، فاستغنى بذلك طلبة العلم عن الرحلة إلى شيوخ الأمصار الإسلامية –ومنها تنبكتو- إذ أصبحوا يجدون محلياً مَن تتوفر فيهم أهلية الأخذ عنهم. وتدل الإجازاتُ التي درج علماء بلدنا على منحها تلاميذَهم إلى ذلك النضوج، إذ تحتوي ابتداءً على أسماء محليين قبل أن تصعد الرواية إلى رجال السند من مغاربة ومصريين ومجاوري الحرمين الذين كانت الرحلة إليهم.
آتت التأثيراتُ التي ضمنت رحلات الحج وطلب العلم استمرارَ ورودها، أُكلَها، ولم يُطِل القرن الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي، حتى أخذ نبوغ جلة من العلماء ورجال التصوف يتوالى في مختلف أنحاء البلاد، ومن بينهم مشاهير يعتبرون من مفاخر بلاد شنكيطي، وقد احتوى كتاب فتح الشكور على تراجم العديد منهم.