نفوذُ الزعامات التقليدية.. واقعٌ حاربناه بحذر

نفوذُ الزعامات التقليدية.. واقعٌ حاربناه بحذر
———————————————————–
كانت موريتانيا قبل الاحتلال الفرنسي تقودها زعامة تقليدية قوية ومنظمة، شأنها في ذلك شأن الدول الإفريقية الأخرى. وتختلف الزعامات في المناطق «الناطقة بالحسانية» التي يسكنها البداة الرحل عن تلك القائدة في وادي النهر. فالزعامة في عالم البداة الرحل مؤلفة من إمارات تبسط نفوذها على مناطق واسعة نسبيا، وتشمل سيادتها العديد من السكان. ويوجد على رأس كل إمارة أمير يتبع له نظريا عدد من شيوخ القبائل والأفخاذ. ويوجد في بعض نواحي تلك الإمارات أسر زاوية كبرى يتعدى نفوذها الروحي أحيانًا السلطة الزمنية لأمير المنطقة المحددة. وتتسم علاقات هذا الأخير مع سكان إمارته بقدر كبير من التعقيد والدقة يصعب على غير الموريتاني فهمها واستيعابها.
أما الزعامة في منطقة الجنوب المستقرة (ضفة النهر)، فتتألف من رؤساء كانتونات يتبع لهم نظريا مختلف رؤساء قرى الكانتونات. وتتسم علاقات التبعية والولاء هذه أيضا بالتعقيد والدقة. وقد استندت الإدارة الاستعمارية دوماً على هذا التنظيم القائم ذي التجربة الطويلة، و«خدم» معظم القيمين عليه «… فرنسا بصفة مشروعة»، وردّت لهم الجميل بطرق شتى.
تلكم كانت وضعية المشيخة التقليدية التي تحدثتُ عنها في معرض كلامي عن مؤتمر ألاك. وكنتُ أعتقد قبل وصولي السلطةَ أنه قد آن الأوان لأن تختفي المشيخةُ التقليدية بالرغم من الدور الذي لعبته على امتداد تاريخ البلاد، ورغم فوائدها العملية التي لا جدال فيها خلال بعض فترات تطور مجتمعنا، ورغم تعلق جزء هام من السكان بمؤسسة كان يتعين عليه مكافحتها. فلم هذا الموقف؟ إن مرد هذا الموقف هو أن الأسس التي تقوم عليها هذه المؤسسة، والمتمثلة في الدفاع عن المصالح القبلية الخاصة، لا تتلاءم مع وجود الدولة-الأمة المستقلة. وبعبارة أخرى، فإن المسلكين القبلي والوطني على طرفي نقيض.
ومع ذلك، فقد اعتقدتُ أنه لا ينبغي استعجال الأمور وتوتير الأوضاع كما حصل في بعض بلدان المنطقة، بل يجب على العكس من ذلك مساعدة تلك الزعامة على أن تتطور في الاتجاه الصحيح، بدمجها في الحياة السياسية الجديدة. فلا يسعنا من المنظور الديمقراطي المحض إقصاء تلك الزعامة من هذه الحياة. زد على ذلك، أنه إذا ما استثنينا بعض التوجهات المغرضة في آدرار، والتي سبقت منا إليها إيماءة، فإن المشيخة التقليدية لم تسْع أبداً للصدام مع السلطة الجديدة التي لا يمكن – موضوعياً – لأفكارها العصرية أن تروق لها أو تبعث على اطمئنانها. فقد اقتصرت ردود فعلها الخارجية المعبّرة عن استيائها على بعض الصدود عن التعامل مع الإدارة هنا وهناك. ولم نعرف لحسن الحظ الصدامات المسلحة التي عرفتها بعض دول المنطقة. فقد اهتمت المشيخة التقليدية لدينا بالسياسة منذ ظهورها في بلادنا، أي منذ سنوات 1945-1946. وسبق أن تحدثتُ عن دورها الأساس في إنشاء أول حركة سياسية محلية صرف عرفتها البلاد، وهي «الاتحاد التقدمي الموريتاني» الذي أنشأته هذه المشيخة وقادته بالتعاون مع الإدارة الاستعمارية التي سخّرتها لإدارة الأمور.
وعندما اختفي «الاتحاد التقدمي الموريتاني» في مؤتمر ألاك سنة 1958، احتفظتْ الزعامةُ التقليدية بنفوذ قوي داخل الحزب الجديد، «حزب التجمع الموريتاني»، الذي حافظت على الأغلبية في جميع هيئاته، من القاعدة إلى القمة. وقد نالت تلك الأغلبية عن طريق الاقتراع الديمقراطي على مختلف المستويات. لذا كان المرشحون المعضدون من قبل الشيوخ المحليين– إذا لم يكن هؤلاء هم المترشحون– يُنتَخبون تلقائياً، إلا في حالات نادرة جداً.
وعليه، فإن المشيخة التقليدية بحكم سلطتها شبه المقبولة طوعاً – رغم خلافات القبائل المطردة – قد حاولت إبقاءَ نفوذها على السلطة الوطنية الجديدة بالطرق الديمقراطية مستخدمةً أصوات رعاياها ودافعي ضرائبها. وكان من الصعب علينا الخروج من تلك الدائرة المغلقة، إلا أنه يتحتم علينا مع ذلك اختراقَها بما يلزم من حذر وحيطة. ففي حين كان ممثلو المشيخة التقليدية وأنصارها يشكلون آنذاك الأغلبية المطلقة، كان يتعين علينا من المنظور الجدلي ألا نكتفي بطرح إشكالية مستقبل هذه المشيخة فحسب، بل كان علينا أيضاً أن نعمل على القضاء عليها عن طريق الانقراض. وكان ذلك مصدر التوتر الكبير الثاني الذي عرفته أعمالُ مؤتمر الوحدة. وبلغ التوتر حداً جعل المؤتمر يؤجل البتَّ في تينك المسألتين اللتين أثارتا حفيظة المؤتمرين، وهما قضية اللغة العربية وقضية المشيخة التقليدية. ونص أحد قرارات المؤتمر على «أن تُعَلق المسألتان، على أن يقترح المكتبُ السياسي الوطني حلاً لهما في المؤتمر القادم».

المختار ولد داداه/ «موريتانيا على درب التحديات»

زر الذهاب إلى الأعلى