كتب محمد سالم المجلسي متحدثا عن بعض ذكرياته في السجن
كتب محمد سالم المجلسي متحدثا عن بعض ذكرياته في السجن:
لَفتَ انتِباهي وقوف الحراس عند الزَّنزانة التي بجنب زنزانتي وتشترك معها نفس القاطع, مع أنّهم لم يُدخلوا فيها أحدا بعد مَجيئي.. وكانُواْ يَقُولُون: “كيف الحال؟..ايَّاك ما قَالّْ شِي..؟ لا تتكلَّم امْعَ حَدّْ…”
لقد كان هنالك شخصٌ وإن لم أسمع صوتَه, كنتُ أسمع صلصلة السلاسل والأقفال من جهته فلم أشُكَّ أنَّه مُقيَّدٌ لإيلافي القيُودَ وأصواتَها.
أخذ التَّفكيرُ في مَن يكون ذلك الشَّخص بعضَ وقتي..ونمتُ ليلتي تلك قليلا…ثُمَّ قُمتُ على أذان أحدِ الإخوة السُّجناء يبدو أنّه لم يَنَم ليلَتَه تلك..فلِلَيلة السَّجين الأولى شأن.
وفي ذلك الوقت كنتُ أسمع صَوتَ جاري, كان صَوتَ رَجلٍ مُسنٍّ تتخلَّلُه بَحَّة, يُردِّد تعاويذَ وكلاما مُسجَّعا مقفَّى وأذكارا منها المأثور وغيره, زادني ذلك حيرةً في الرَّجل مع ما أنا فيه من هموم.
نمت قليلا بعد صلاة الصُّبح بالتَّيمُّم على الحائط, فلصلاة الصُّبح خُصوصيتُها في الزَّنازين ولو في أحسن الظُّروف..ولم أستيقظ إلا على أصوات فرقة المُناوبة تفتح عنَّا الأبواب للخروج الصَّباحيِّ إلى المراحيض.
خرج جاري..وكان ذلك فُرصةً لرُؤيته…كان رجلا في حدود السِّتِّين, مُتوسِّط القامة نحيفا, يَغلب الشَّيب على رأسه ولحيته, كان يَضُمُّ إليه درَّاعتَه الزّرقاء الخفيفة (من الشِّكة) وينظُر إلى الأسفل, ويرسُفُ بسِلسِلة تَربط رجليه الحافيتين بقُفلَين, ويردِّد بعض الأذكار بخُفُوت.
كنت أقول لعلَّه إمام مسجد أو شيخ محظرة جرَّهُ قانون الإرهاب الجائر, ولكنَّ تقييده في الوقت الَّذي لم نُقيّد فيه كان إجراءً عقابيا مُنبِئا عن خطورة التُّهمة.
بعد مُضِيِّ أيَّام من العزلة والتَّحقيق بدأ تَخفيفٌ في المعاملة وانفراج في التَّلاقي والسَّلام والكلام, وانحلَّ خيطُ التَّوجُّس تدريجيا, وبدأت حلقاتُ التَّعارف تَقبِس من الأنس ما يُبدِّد وحشَة السِّجن البهيم.
كان صاحبُنا السَّجين شيخا موريتانيا أصيلا دَرَسَ في محاظر منطقته ثُمَّ رحل إلى السِّينغال حيث مكث فيها وفي جوارها عُقودا يُمارس التِّجارة, وقد كان يَروي لنا قصصا مُمتعة يُلقي لها الجميع أسماعهم بما في ذلك الحُرَّاس, وكان يَصف عادات مَن لَقِي في أسفاره مِن أهل تلك البُلدان الَّتي رَمته إليها الأقدار, وممَّا أنشَدَنا واصفا به غُربته أبيات سيد عبد الله ولد أحمد دام الحسني الَّتي يَصِف فيها أيّامه بقُرى “جُلُفْ” و “سِينْ سالُوم” والّتي مِنها:
بِلادٌ رمَتنا بينَها لا مُحبَّبٌ — إلى العين مَرآها يَدُ الحَدَثانِ
ألا ليت شعري هل إلى مَعهَدِ النَّوَى — خَلاصٌ مِنَ اَيدي النَّأي والجَوَلانِ
وهل لي بِجَنبَيْ تَغرَريتَ إلى الصَّفا — إلى الأجرَعِ الغَربِيِّ فالجُرُذانِ
إلى جَنبَتَي ذي قَسطَلٍ مُتنَزَّهٌ — فإنِّي إليها دَائمُ الهيَمانِ
كان مُحبًّا للشِّعر راوية له, روى لنا نُتَفًا جميلة من أشعار المُوريتانِيِّين المازِجة بين العربية والولفية الَّتي كان يُتقِن, ورُبّما أنشدتُّه بَعضَ ذلك فاستحسنه.
وقَد كان فروعيا مُقلِّدا ربَّما انتَقد بعضَ ما يراه ويسمعُه هناك, مُستدلا ببعض الأنظام, فكان يحلب في الإناء حَلبة وفي الأرضِ حلبة.
وكان إلى ذلك صُوفيا يعكف على أدعيته وأورادِه, يتبرك بِ “دلائل الخيرات” ويترنَّم بتوسُّليات القوم ومديحيَّات المشايخ, وكثيرا ما شدا بصوتٍ عَذب يَرشُفه السَّمعُ عَينِيَّة ابن الفارض الَّتي أولُها:
أبَرْقٌ بدا من جانِبِ الغَور ِلامعُ — أم ارتَفَعتْ عن وجه لَيلَى البراقِعُ…
ألا ليتَ شعري هل سُليمي مقيمةٌ — بِوادي الحِمى حَيثُ المُتيَّمُ والِعُ
وهل لَعلعَ الرَّعدُ الهتونُ بلَعلعٍ — وهلْ جادَها صَوبٌ من المُزنِ هامِعُ
وهل أرِدنْ ماءَ العُذيبِ وحاجرٍ — جِهاراً وسِرُّ اللّيلِ بالصّبحِ شائِعُ
وهل قاعَةُ الوَعْساء مخْضَرّة الرّبى — وهل ما مَضَى فيها من العيش راجعُ
إلى آخر القصيدة الَّتي كان يحفظ كاملة.
وذاتَ صباحٍ من أوَّل أيَّام يناير.. دخل شُرطِيٌّ كان في إجازةٍ فسلَّم.. ثُمَّ قال للشَّيخ “أيوَ شمَّاسي امعَ العام الجديد؟” فأجابَهُ الشَّيخ: “العام امْحالِ” فقال” “اصبُر” فردَّ الشَّيخ: “خايف اتعود ما افهمتني, اَلاَّ كنت عَزمِي نلحك عِيَّالْ عَندي او لاكَدَّيت, كيف حال لمغنِّ الِّ كال:
أمَّانَ عَزمي كنتْ بعدْ.. انِّي فالفطر التَّالِي
ما يسبكني للنَّاسْ حَدْ.. يَغير العام امْحالِ”
فقيل له لمَن هذا؟
فقال: “هو كاف اطّْلعْ الِّ منهم:
لکصيِّرْ لوَّل هلّْ تلّْ.. اعلِيَّ مان عندْ بلّْ
أهلِ واعْلِيَّ زادْ هلّْ.. لكصيِّر تلّْ التَّالِي
والْحگنِي ذاك ابلا اجْمَلْ.. بِيَّ كَدَّمتْ اجمالِي”
فذكرتُ لهُ أني أسمَع أنّها للولي ولد الشَّيخ يُبَّ, وحكيتُ عليه:
وابْگيتْ انعدَّلْ فَمّْ هَمّْ.. اعليه انوَصِّي حدّْ فَمّْ
واگبَظلِي ذاك الحَدّْ يَمّْ..اشطَنِّ بيه الْيالِي..إلَى آخِرِ اطّْلَعْ.
فكان ينظر إليَّ نظرة مشفق ويقول: “انت بعد يَولِّ مَظلُوم”..
لم نعلم مِن خبر اعتقال هذا الشَّيخ إلا أنَّه وُجِد في طريق عَودَته إلى البلاد في ظرف حَرِج يجري فيه البحث عن مَطلوبين على حُدُود “مالي” فاعتُقِل, وشَرَقَ بِريقِه حِينَ لَقي الأذَى في وطن حنَّ إليه حنين الأعرابية إلى نجد.
وكان إذا قيلَ له: “اشتَمَّيت إلين كستْ حدود مالي؟”
يَقول: “وَمَن كُتِبَت عليه خُطًى مشاها.. ”
أُطلِق سراح ذلك الشَّيخ المُتَّهم تُهمةً لم تَخطُر له ببال, بعد أن قضى نحو شهرين في زنزانة تَحبِس “خَطَرَه” وقُيُود تَعقِلُ “ضَرَرَه”.. ليُسجِّل رقما في سِجل ضحايا الأنواء الكاذبة, وينقُل صورةً عن قانون الإرهاب الذي هو أطغَى مِن سَيل, وينال حظًّا من السَّلفية ونصيبا من تُهمته عند من لم يَعرف عنه غيرَ سجنه.
متَّعنا الله في ظلِّ عدلِه, وأنزل علينا سحائب فضله.