مواقف لا تنسى/باته بنت البراء
مواقف لا تنسى
أكثر ما يجرحني أن أضطر إلى سؤال أي كان حاجة، حتى ولو كان لي الحق فيها.
وأظل أتردد وقتا طويلا، أقدم وأحجم قبل الطلب، وحتى على مستوى أسرتي الضيقة، ندر أن أطلب معونة أو خدمة، هذا طبعي الذي جبلت عليه.
إلا أن الحياة ترغمك أحيانا على أن تواجه الناس وتقدم طلبات.
العام 1988م قمت بكتابة “حكايات الجدة”، وهي قصص شعبية تلقيتها من أفواه الرواة، وظلت تسكنني حتى عربتها، وقسمتها أقساما راعيت فيها مراحل النمو الذهني والعمري لتلامذة الصفوف الابتدائية والإعدادية.
قدمتها بخطي في دفتر لإدارة المعهد التربوي الوطني وقتها ، فرحب المدير بالفكرة ووعدني خيرا إذا بدأت المطبعة التي يعدون لها الشغل.
لكني سحبت الدفتر بعد مدة، وفكرت أن أطبع القصص بالمغرب الذي أدرس فيه السلك الثالث.
وأثناء ذلك اتفقت مع إحدى السكرتيرات في مشروع التقاليد المروية، الذي تنسقه السيدة كاترين الشيخ، على رقن القصص وإعدادها للطبع.
وكنت أزور دار الثقافة يوميا لأتابع العمل، وأصحح الأخطاء في ما أنجز، وأحيانا أقوم بالطباعة إذا تغيبت السكرتيرة.
وحين أقيم معرض الكتاب الموريتاني التونسي في التسعينات، التقيت مدير دار اسعيدان للطباعة والنشر؛ عمر اسعيدان وعرضت عليه المشروع فقبل.
وهكذا وقعت معه عقدا على طباعة الحكايات في ثلاثة أجزاء: (الخرافات- الأساطير- الحكايات التاريخية) مقابل مبلغ معين.
دفعت له راتبي الشهري مقدما، كعربون حسن نية على سداد المبلغ المتبقي فور انتهائه من طباعة الأجزاء الثلاثة.
ثم تقدمت بطلب لوزير الثقافة والتوجيه الإسلامي حينها، وضحت فيه الأسباب التي حدتني إلى الكتاية للطفل الموريتاني، وأهمية توثيق تراثنا المروي، واستثماره في توجيه وتعليم الأجيال، وطلبت مساعدتي في تغطية نفقات الطباعة، كما يوضحها عقد الاتفاق المرفق بالطلب.
انتظرت ردا على الطلب وحين طال الوقت، طلبت مقابلة الوزير، وشرحت له الموضوع، فوضح لي أن الوضع المالي للوزارة لا يسمح بتقديم مساعدات عينية، وأن لديهم أولوية صيانة المخطوطات، والبحث عن الآثار.
شكرته على صراحته، وسحبت طلبي المغبر من السكرتاريا، وأضربت صفحا عن مثل هذه الطلبات.
وأقيم معرض الكتاب الموريتاني التونسي الثاني وجاءني اسعيدان يحمل 40 نسخة من الكتاب بأجزائه الثلاثة، ولا شك أنه كان يتوقع مني وفاء بالتزامي له، ولكن لم يكن باليد حيلة.
فكرت أن أطلب شراء النسخ التي أهداني من الكتاب بسعر تشجيعي، فوجهت طلبين: أحدهما لوزارة التهذيب الوطني، والثاني لوزارة الثقافة، وأرفقتهما بنسخ من المطبوع.
بعد شهر، ردت وزارة التعليم على الرسالة بأنه لا توجد مخصصات لشراء مثل هذه الكتب.
أما وزير الثقافة فأحال الرسالة إلى الأمين العام، وحين التقيته وضح لي الظروف المالية الصعبة التي تشهدها الوزارة، فشكرته وتفهمت موقفه وانسحبت.
هاتفت الأستاذ عمر اسعيدان وطلبت منه إرسال الكتب، وأني سأحاول بيعها في المكتبات لأدفع مستحقات الطباعة.
فاستجاب سريعا ووصلتني الكتب على الرحلة التونسية، الأسبوع الموالي.
وزعت الكتب على المكتبات والأكشاك، ولكن الطلب كان ضئيلا، وظلت كاسدة، مما جعلني أفكر في سلفة من البنك – رغم كراهيتي لذلك- لسداد المبلغ.
لم أستطع أن أزور المعرض الثالث للكتاب خجلا من عمر اسعيدان.
وأيام تعيين الدبلوماسي القدير خطري ولد جدو وزيرا الثقافة، قمت بزيارة مجاملة له وأهديته الكتاب.
فقال:
– هذا مجهود رائع، ومكتبتنا بحاجة إليه، وكذلك مدارسنا، ترى كم كلفتك الطباعة؟
تحرجت أولا من الرد، ثم تشجعت وصارحته بالمبلغ،
فسأل:
-وهل دفعته للمطبعة؟
فقلت:
– ما زال بذمتي دين لها.
فقال:
– سنتولى دفع المبلغ، وسأحوله لك بسعر الصرف التشجيعي( Taux de chancellerie) على السفارة بتونس، فتدفعين كل المستحقات.
شكرته له هذه اليد الكريمة، وخرجت من عنده وأنا أعترف أن في الناس معادن ثمينة قلما نصادفها.
بعد يومين اتصل بي محاسب السفارة بتونس؛ الحسن ولد سيد ابراهيم،وذكر أن لدي عنده مبلغا ماليا يريد عنوان المصرف والحساب الذي يحوله عليه.
أعطيته رقم هاتف عمر اسعيدان، وطلبت منه أن يدفع له ثمن الكتب، وأن يحول الباقي على حسابي في البنك الوطني الموريتاني.
وسجلت هذه الحادثة، في دفتر أخضر صغير، وظلت تحفر في ذهني حتى تحررت منها الآن على هذا الفضاء الأزرق.
موقف مماثل حدث معي حين اتصل علي عمي المراقب في إعدادية المذرذه، وذكر لي أن وضعه الصحي حرج، وأن أبناءه الأطفال الصغار في قرية اتاگلالت بأمس الحاجة إليه.
توجهت إلى معالي وزير الثقافة والتوجيه الإسلامي وقتها أبو بكر ولد احمد، عله يساعدني في الموضوع.
قابلت الوزير يوم الخميس أحمل طلبا شرحت فيه الأسباب التي تستدعي تحويل العم الوالد إلى اتاگلالت، وأشرت أن لديه محظرة مرخصة باسم والده ومسجدا تابعا لها.
فقال لي:
ارجعي يوم الإثنين لنرى ماذا سيكون رد وزارة التهذيب.
دخلت في الموعد على السكرتيرة الخاصة، فبادرتني قائلة:
– أوصاني الوزير أن أعطيك هذا المظروف، واعتذر عن عدم استقبالك لأن لديه اجتماعا طارئا.
فتحت الظرف فإذا فيه الأوراق التالية موقعة:
– رسالة من وزير الثقافة والتوجيه الإسلامي إلى وزير التعليم يطلب فيها تحويل العم إلى وزارة الثقافة والتوجيه الإسلامي.
– رسالة تحويله من وزارة التهذيب الوطني ووضعه تحت تصرف وزارة الثقافة.
– مذكرة عمل من وزير الثقافة تضعه تحت تصرف إدارة التوجيه الإسلامي
– مذكرة عمل من مدير التوجيه الإسلامي تقضي بتفريغه لمحظرة الأمين بن سيدي في اتاگلالت.
أما الموقف الثالث فحدث العام 2014 حين قررت الاستقالة من وظيفتي بجامعة الإمام بالسعودية، نظرا لظروف الوالدة الصحية، ورفضت عمادة الجامعة طلب الاستقالة، وجددوا عقدي معهم، فعزمت أن أبقى سنة، ثم أتقدم بالطلب من جديد مع شرح الأسباب التي دعتني إلى الاستقالة.
ومن الصدف أن الأمين العام للمدرسة العليا للتعليم اتصل علي هاتفيا وقال لي: إنه لا بد من العودة للمؤسسة، فالوزارة استدعت كل الأساتذة المتعاونين خارجيا.
حررت نهاية السنة الداسية 2015 طلب الاستقالة وذكرت فيه الدواعي؛ كالظرف الصحي للوالدة، واستدعائي من طرف المؤسسة التي أتبعها لها، فقبلوا على مضض، وبعد أخذ وشد.
مع بداية السنة الدراسية 2015-2016 بالبلد، زرت
المدرسة العليا للتعليم، والتقيت الدكتور الفاضل محمد ولد سيديا ولد خباز الذي يصدق عليه قول الشاعر العربي:
تراه إذا ما جئته متهللا *
كأنك تعطيه الذي أنت سائله*
وذكرت له اتصال الأمين العام للمدرسة العليا علي، وطلبه مني العودة، فقال لي:
– كل الأساتذة المتعاقدين خارجيا استدعتهم الوزارة، ونحن نرحب بك، وبحاجة إليك، ولكن لا يمكن أن نرجعك إلا بإذن من الوزارة الوصية، والوظيفة العمومية، فمدرستنا لم تعد مستقلة ماليا، ولا بد من قبول الوزارة طلبك لتمنحي اعتمادا ماليا، فعليك أن تتقدمي بطلب لنرفعه إلى الوزارة.
تابعت الطلب على مستوى الوزارة فطلبوا إرفاق الطلب بنسخ مصدقة من سنوات الإيداع، وشهادة من المدرسة العليا
أني لم أتلق منها راتبا طيلة فترة عملي بالجامعات السعودية.
كانت وثائق سنوات الإيداع الموقعة من طرف وزراء التعليم المختلفين بحوزتي، وأرفقتها بشهادة من إدارة المحاسبة بالمدرسة العليا، تثبت أني لم أتلق أي راتب من المدرسة بعد شهر يوليو 2000م.
وبالفعل فقد اشتغلت على تصحيح مسابقة المدرسة شهر أغسطس، وطلبت من المدير وقتها أن يترك لي راتبي الأشهر المتبقية من السنة المالية لأؤمن به مصاريف الأولاد حتى تستقر أموري المادية في المملكة، فوعدني خيرا، ولكن ضميره المهني لم يسمح بذلك؛ فقطع راتبي نفس الشهر الذي اشتغلت فيه بتصحيح المسابقة.
أرفقت الوثائق بالطلب، وأعدته إلى الوزارة ولكني فوجئت بعد أسبوع برده مكتوبا عليه أن لا مكان لي لديهم، وأن وثائق الإيداع الموقعة لا عبرة بها، وأن علي التوجه إلى المحكمة لمقاضاتهم إن أردت ذلك.
أسقط في يدي، ولعنت اللحظة التي قادتني إلى وضع نفسي في موقف مماثل، ولكن أحدهم أشار علي بأن أطلب لقاء رئيس الوزراء يحي ولد حدمين، وأطرح عليه الموضوع،
ما دمت خدمت أكثر من عشرين سنة بالبلد دون أدنى ترقية أو امتياز، وهاجرت من أجل عيش كريم، وجددت طلبات الإيداع كل سنة، ثم استدعيت من طرف الوزارة، لأستقيل، ثم أقابل بالرفض عند عودتي.
والتقيت الوزير يحي ولد حدمين، وقابلني بدماثة منقطعة النظير، ونظر في الملف، ثم استدعى مستشاره وأمره بمتابعته حتى أرجع لوظيفتي .
سافرت إلى المغرب لإجراء عملية للوالدة وبقيت هناك أكثر من شهر، وحين عدت اتصل بي مستشار الوزير وقال لي:
– راجعي وزارة التعليم العالي.
وبالفعل وجدت الملف في مراحل متقدمة، فتابعته حتى صودق على اعتمادي المالي.
الصدفة الغريبة من هذه المواقف الثلاثة أني وجدت جوابا قطعيا على سؤال طرحه العلامة محمد سالم ولد عدود – رحمه الله- على أحد وجهاء قبيلة الأقلال.
فقد زاره مع جماعة لطلب يد كريمته لفتى من بني ديمان،
وبعد حسن الاستقبال، قال العلامة محمد سالم ولد عدود لوالد الفتاة:
” لقد جئناكم اليوم لنتأكد من صحة ما يروى من أن الاقلال وبني ديمان ابناء عمومة”.
أعتقد أنهم كذلك.
يقول الوالد أيمين:
هو شي متعدل ينگال@ هو لاش أثرو مخلي؟
من صفحة الدكتورة باته بنت البرا
–