رصف اهل إكيدي /يعقوب اليدالي

رَصْفْ أهل إكيد:
أمر الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه برد الأمانات إلى أهلها، وقال الحكماء إن الدين رق فاختر من يسترقك، وأنه هم بالليل وذل في النهار، ووصف حكماء الأفارقة الدين بأنه خَيَّابْ اجَّرْيَ”، ومن بين الحكم التي أتحفني بها السيد ميلود حكيم المدوب، “من أراد كتم فقره فعليه بالابتعاد عن الدين” ، وقد أوصى حكيم الزوايا الفالل بن باب أحمد أبناءه بأن لا يفضحهم مالهم إذا خرج من أيديهم، وهو نهي ضمني عن “رصف المدينين”، كما ورد أيضا في وصاياه القيمة “إن اليد لتصنع عند الرجل بماله”، بمعنى تسديد ديونه إليه دون مطل أو تسويف في القضاء، وفي هذا السياق يأتي المثل الفرنسي الشهير
Les bon comptes font les bons amis.

ولا شك أن المسلم العاقل لا يأخذ الدين إلا بنية قضائه، لكن الظروف قد تحول دون ذلك، ويعبر الموريتانيون عن المَطْلِ ب “طول اظهر”، وقد سمعت عدة قصص طالب من خلالها بعض أهل إكيد أشخاصا بقضاء بعض المستحقات بطريقة كيسة، وسأحاول استعراض ما أسعفت به الذاكرة منها.

أطلق شباب من عصر “لسياد” في السبعينات مبادرة لتوفير اللحوم في قرية انيفرار، ونظرا لهامش الربح البسيط، فقد قرر الشباب، منع بيع الأجل، لضمان توفر السيولة اللازمة لشراء الأغنام، وذات يوم احتاج أحد الشيوخ لكمية من اللحم وأعطاها له الشباب على الفور، ويبدو أنه نسي أن يبعث لهم ثمنها، وبعد مرور عدة أيام، حضر الشيخ إلى المسجد، وأثناء انتظاره لأداء الصلاة عطس فشمت له جميع الشباب الحاضرين في وقت واحد، ولما عاد إلى المنزل، بادر بإرسال المبلغ إليهم.

كنت ذات يوم في حانوت صديقي الكيس محمد عبدالله بن الأمير رحمه الله، وأثناء الحديث دخل زبون يطلب بطاقة رصيد من فئة ألف أوقية، فسلمها محمد عبدالله إليه، فطلب المشتري، قطعة نقدية لإزالة الغشاء الذي يغطي رقم البطاقة، فناوله التاجر قطعة من فئة عشرين أوقية، ورجعنا إلى تجاذب أطراف الحديث، وبعدما انتهى الزبون من تزويد هاتفه بالرصيد أدخل القطعة النقدية في جيبه وهم بالخروج، فقال له محمد عبدالله بهدوء، ذيك انحاس ألا هي المجبورة فيه، فالتفت الرجل وهو يضحك، وأخرج القطعة من جيبه وقال له لقد أخذتها سهوا، وإنك لرجل ديماني قطعا.

دخلت سيدة إلى بقالة في تنويش يعمل فيها شباب من أهل إكيد، وقالت لهم إنها مستعجلة جدا، وطلبت تزويدها ببعض الأغراض المتعلقة بالطبخ، فسلمها لها أحد الشباب، فأخذتها وخرجت تحث الخطى، فنبه الشاب صديقه الواقف قرب الباب أنها لم تدفع ثمن البضاعة، فخاطبها الأخير بهدوء، افلانَ انت الكوم اياك ردولك ادكديك؟ فاستدارت وهي تضحك، وقالت إنها تركت التنور يغلي وسهت عن دفع المبلغ.

وسأختم، هذه السطور بقصة طريفة وقعت في مدينة اندر بين شباب من أهل ابير التورس وسيدة ولفية كانت تزودهم بوجبة الغداء على عادة التجار هناك، وقد لاحظ الأبهميان أن كمية الطعام قليلة، وأن السيدة تحاول التمويه على ذلك بنشر الطعام على جوانب القصعة، وتقول لهم إن ذلك يعجل في برودته، ولم يعلق الرجلان على الموضوع، لأن الطبع الديماني يستهجن الحديث عن الطعام سواء بالمدح أو القدح، وذات زيارة للسيدة إلى الحانوت، عرض عليها أحد الرجلين كأساً من الشاي، فقبلته شاكرة، وبعدما رشفت منه، قالت إنه لذيذ، لكنه قليل وساخن جدا، فقال لها الشاب “انْشْرِيهْ”، فسكتت قليلا ثم أجهشت في البكاء.

زر الذهاب إلى الأعلى