السلام عليكم. سُجود شُكر في ظلِّ الحائط. …….ا
السلام عليكم.
سُجود شُكر في ظلِّ الحائط.
…….ا
يتوالى رَحيل فلذات أكبادنا غربًا، تُغيِّبها الأماني خَلف الأطلسي.. فالقِبلة “فردوس” أمريكا!..
وبَعد قَفزة الخَلاَص، تعود المَراسيل بصورة لسجدة شُكر، بضحكات تشي بسعادة مُتلعثمة، بصرخات حُبور حقيقةً لا مَجازًا،.. شباب لا يحمل غير اسمه، مُنتشٍ بعد اعتلاء ذروة الجدار الصَّدئ، حيث مُلتقى الهاربين الأثير،.. ألِهذا الحد يُسعِدُ الهبوط على سَطح الغُربة؟..
الظاهر أيضا، أنّه كلّما قَفز أحدهم، يُنهي بصَوته حالة صَمته فورًا، فيُسقِطُ لسانه آخر سدَّادات التَّحفظ المَحلِّي، ليلفظ نقدًا صريحًا!،.. فهل يُجرِّب المُهاجرُ بهذه اللهفة للتعبير مدى قابلية صوته للتّجسُّد على أرض الحُريّة؟، أم هيَّ حالة من حالات استعادة النُّطق لسليل أمَّة ببغائية تَعشق السُّخط؟..
سَلك الشّباب طُرقا أفعوانية رسمتها شبكات التَّهريب، بين المطارات والغابات، وقد تُوصل المَسالك للحائط الهدف، وقد تؤدي للطريق الأسوأ، حيث الخوفُ والخَطفُ والاذلال والاعتقال والاعتلال.. لكن يبدو أنَّ العزم لديهم يُسجِّل انتصاراتٍ على التوجس والفزع.
هل ثمة ما يلامون عليه؟،.. صحيحٌ أنَّ الطريق مُوحش، وأنَّ الجدار طويلٌ، لكنَّ جدار الفقر في البلد صار بطولٍ مأساوي، والطموح مشروع، فمنهم المهاجر من أجل نفسه وزوجه أو من أجل أمه وإخوته، أو حُبِّه وحبيبته، مَهما تعدَّدتِ الّدوافع، فلن تَخرج عن اقتراعٍ بين الفقر والفِرار منه نحو المَأمول أو المَجهول.
عرفت الأشهر الماضية تحوُّلا نوعيًّا في إيقاع الهجرة حتى غدت حُمَّى مُعدية، تستفزَّها ظاهريًّا شَهوة المال الشَّرسة.
ناقشتُ أحدَ المتحمِّسين للارتحال، فكان ردّه بالحرف:« تعاظمت لدى الشباب القناعة بأنهم خارج المُعادلة الاقتصادية المحلية، وأنَّ المكوث في البلد شقاء يندرج في باب البؤس، فلم يعد من صبر على أمل في عمل متعثر، وعلى سنين تتبعثر، وعلى أيام ملوثة بالبطالة والتصنيف المعياري، وعلى أماسي التَّسكع في القهوات، واجترار المُباريات، والنظرات المُحتقرة من الفتيات.. والعجز عن التحرر من أحكام المجتمع ومنها أنَّ: “حدْ ما عندُو شي، ماهو شي، ولايْكونْ شي”..»
هل أصبحت علاقتهم “بالغد” علاقة عدائية وغير مُطَمْئنة، حتَّى تُفسِّر هذا التدفق الهستيري غرب المحيط؟ .. فقبل سنوات قليلة كانت السفارات الغربية تمنح التأشيرة بسهولة لمُكون البظان، لأنَّ الاعتقاد السائد لديهم عنهم أنّهم يسافرون ولا يُهاجرون ولا يميلون للإقامة الطويلة في الغرب.. ويحدث العكس اليوم وبهياج شديد.
طبعا، لا يُستحسن التَّهويل دون سيَّاقٍ منطقي يُشكِّل فَهمًا لما يجري، فَهمًا أعمقَ من كونه مُجرّد تَكالُب على السّفر من مُراهقين مُترفين يُقلَّد بعضهم البعض … القصة قصيرة، وأسهل ممَّا نتخيل، إنْ نحنُ قدَّرْنا أنَّه جُموح من شبابٍ لإعادة رسم الحلم بألوان الأمل..
قد يقول قائل، إنَّ من قفزوا ليسوا مُعدِمين!،.. ربّما هم كذلك نسبيًّا،.. لكن ليس في الأمر حُظوة، فالكل يُدرك أنَّ المُغامرين الجُدد باعوا وباع أهلهم من مُقتنياتهم الزَّهيدة ليبعثوهم.
هل من خسارة ؟
لا أريد أيضا الالتفاف على حقيقة مُدْرَكَة، وهيَّ أنَّ هذا النَّزيف البشري على حساب عرقيَّة تتعقَّد فيها الزِّيجات لحدِّ الحرمان وتتناقصُ فيها الولادات لحدٍّ مُقلق.. وأنَّ المُتَغرّبين في الأغلب من حملة الشهادات، وفي عُمر العطاء.
سأقول أيضا بلا مواربة، إننا نعيش في المقابل اغراقًا ديموغرافيا رهيبا من المُهاجرين الأجانب، وأنَّ الأمر مُنهك لأمننا ولخدمات النَّقل والصَّحة والتموين الغذائي، ومُزاحم للمواطنين على فُرص العمل الشّحيحة المتاحة،.. فهل نحن فعلا مَحَجَّة اقتصادية ومالية مُغرية لغيرنا حتى نستهويهم لهذه الدرجة؟، فهذا التدفق من الأجانب نحونا مُباين للحُجج الطاردة التي يستظهر بها شبابنا المتمرِّد.. فهل في الأمر من خَلل تقديري؟.. قد نستثني طبعاً أنَّ البظاني يَعاف أشرف المِهن اليدوية هُنا، ويَقْبَل بأبخسها هُناك..
ما هو المُؤمل؟ .. سُؤال!
شباب المهجر، ستعفيهم متعة ” قفزة التّحدي” مُؤقتا من التفكير في انحناءات الجوانب المُعتمة لما بعد تسلُّق الحائط، ومنها الاحتمال الأرجح بأنَّ مُعظمهم لن يعود، كما فعل جلّ من سبقوهم، فهُمْ شَتات غير مُتجانس وغير مُرتبط بعقود مضبوطة الآجال، كشُرطة الإمارات مثلا، ولا برقيب قبلي أو جهوي كتجمُّعات جالياتنا في افريقيا.
ستَتَبايَن حُظوظهم كتَبايُن أقدارهم،.. ستستغرقهم الإجراءات، سينبهر الوافد منهم بالعالم الجديد، ستَحْمله دوَّامة التَّحصيل والانفاق والتحويلات والقروض والإخفاقات والنجاحات، سيستريح نسبيًّا لمستوى المعيشة والخدمات التعليمية والصحية، وبحكم المُؤالفة سيرفض العودة هنا للقبول بأقلّ من ذلك، سيتزوج البعض من أجنبية ويذوب،.. سيجلب الآخر زوجة من هنا ستكتشف سريعًا أنَّ الغربة صِنْو الجَحيم والكد، ومع ازدياد الأطفال تتعقَّد رحلة الإيَّاب بتكاليفها وبحسابات الرّبح والخسارة.. وينتهي المَطاف بالبعض خادمًا لأطفاله الغُرباء عنه في الثقافة والميول وربما المعتقد،.. وما منْ سَلْوة تُرجى غير “رَوزه من أتاي وسلك من الهُول”.. وأخيلة من ذكريات ثمينة.. فالوقت خَصم شرس للمُهاجر.
على كلٍّ، نزيف هجرة شبابنا ليس لُغزا ينكشف، فبلدنا تقليديا، بلد إقامة مُريحة للسَّاهين الزَّاهدين في الرَّفاه، وحديثًا بلد إقامة مُريحة للمحظيين بالمال السّهل، المتكيِّفين مع النَّغمة السائدة، لأبناء السلاسل، ولتُجار الغشِّ ولباعة الوهم المقنَّعين بالدِّين، لكنه على ما يبدو ليس مكانًا سحريًّا لمُمارسة الحُلم بتقدير الذَّات لمثل هؤلاء الفتية،.. هؤلاء من عِداد العَوَام الحالمين، الذين لم تعد تُفلح معهم مُسكّنات الأمنيات، وقد ملُّوا السير الهائم على حبل اجتماعي مشدودٍ، يُطالبهم بشهادةٍ جامعية كئيبة المسار، وبعَملٍ مُجزٍ وشقَّة وسيَّارة وعُرس يُستَمْطر فيه التَّمجيد تحتَ سَحابة من الأوراق النَّقدية،.. بالمُختصر، حياة كريمة بمقاييس الخالْ زَيْدان.
من أحسن تجارب الهجرة المحلّية الناجحة والمحققة لأهدافها، تجربة “سرغلَّه” في فرنسا، فمنها حققوا ثروات معتبرة، وأطلقوا مشاريع استثمارية جَمعوية في قُراهم وفي البلد، والسّر في ذلك يعود لدقَّة التنظيم والانضباط شبه العَقدي تحت سلطة المُشتَرك الاجتماعي.. وهو ما يَفتقر إليه مُكون البظان المُحب للتَّرف والتنافس على “اتبيطريق” الخاوي.
ختاما، هل نتمنَّى على شبابنا إعادة التفكير في الهجرة لإنقاذهم من أنفسهم؟، أم نُبارك لهم انقاذهم أنفسهم من واقع لا يَضمن لهم ربّما أكثر من الحق في البؤس.
تحياتي.
الدهماء ريم