المكتبة .. سَكَنِي الروحي / محمد محمد علي

الكاتب والمكتبة
——————–
توقفتْ عن الصدور يوميةُ «الرؤية»، الثلاثاء الماضي، معلنةً عن آخر نسخة ورقية لها، وهو خبر يندرج في إطار الاختفاءات المتتالية للصحافة الورقية في أنحاء العالم كله تقريباً، لكن أحد جوانبه السلبية بالنسبة لي يتمثل في التوقف عن نشر أحد أهم مقالاتها الأسبوعية، ألا وهو مقال الكاتب والباحث والمترجم الدولي محمد ولد محمد عالي. ولدى العودة إلى بعض مقالاته في أرشيفها، وقفتُ على مقال أخبرني ذات مرة أنه أحد أكثر مقالاته التي تعبّر عنه بعمق. وها أنا ذا أنشره هنا لأتشارك متعةَ قراءته مع الأصدقاء المحترمين.
———————–

المكتبة .. سَكَنِي الروحي

محمد محمد علي

يَنتابُني شعورٌ غامضٌ بالحنين كُلَّمَا مَرَرْتُ بِمَبْنَى المجمَّع الثقافي في أبوظبي .. أحياناً أقِف كأنِّي أندِب الأطلالَ وأبكي الدِّمَن، وهذا الشعورُ يُلازِمني كظِلِّي.. يعتريني كلَّمَا اقْتَرَبْتُ من هذا المكان، سواءٌ كنتُ سائراً على قَدَمَيَّ أوْ مارّاً في سيَّارة.
ليس هذا المبنى ذو الطابَع التراثي الجميل هو مَبْعَثَ الحنين، إذْ في مدينة أبوظبي الجميلة الهادئة ما هو أجملُ. فالأبراجُ الشاهقة بأشكالها الهندسية المختلفة تُعانِق السماءَ في كل مكان. وفي أحيانٍ كثيرة تَتَعانقُ الطبيعةُ الجذَّابة وناطحاتُ السحاب فتُشَكِّلان مَنظَراً فاتِناً قَلَّ وجودُه في مكان آخَر. وإذاً، فالأمْرُ كما قال الشاعر:
ومَا حُبُّ الدِّيَارِ شَغَفْنَ قلبي
ولَكِنْ حُبُّ مَن سَكَنَ الدِّيَارَا

والآنَ ها أنَذَا ـ صديقي ـ أُحَدِّثُكَ عن أسباب هذا الحَنين. فَلِعِدَّة سنين كنتُ مُقِيماً في هذا المبنى، لا أغادرُه إلا حِينَ أشْعُر بالتَّعَب أو حين يَدْنُو وقْتُ النوم، أو أكونُ في العَمَل.
حتَّى في النوم كنتُ أحياناً أحلُمُ بأنَّني موجودٌ فيه.. أسْتَأْنِس بأصدقائي الخُلَّص الذين لا يَعرِفون الحِقْدَ ولا الكَرَاهِيَةَ، بل لا تراهم يَعْتِبُون على أَحَد حتَّى لو هَجَرَهم سِنين؛ هُم كما هُم دائماً لا تَتَغيَّر طِبَاعهُم ولا تَتَقَلُّب أمْزِجَتُهم. فأَنْعِمْ بهم منْ أصدقاء وأَحْرِ بكلِّ أحَدٍ أن يَكْتَسِبَ صداقتَهم ويَلْزَمَ صُحْبَتَهم .. تَتَحاوَر معهم في صَمْت وسَكِينة، ثُمَّ تُنْهِي الحِوارَ كَمَا تشاء ولا يَبْدو منهم مَلَلٌ ولا كَلَلٌ.. هُمْ ظُرَفاء لا يُثْقِلُونُكَ بالثَّرْثَرَة والأحاديثِ الـمُمِلَّة؛ خاصَّة إذَا كنتَ مِثلي لا تُحِبُّ الثرثرة.
وأظنُّكَ الآنَ مُتشوق إلى معرفة مَنْ هؤلاء، فَقد أطَلْتُ عليكَ بهذه المقدمة؛ وأنَا أعرف أنَّكَ لا تُحِبُّ الانتظارَ طويلا وليس لَكَ وقتٌ للقراءة، فأنتَ مشغولٌ بـ«دَرْدَشَات فيسبوك»، وتغريدات «تويتر»، ورسائل «واتساب». هؤلاء الأصدقاء هُم الكُتُبُ والمكتبة. نَعَم؛ ومَنْ غيرُهم يَتَّسِم بهذه الخِصال؟ هُم تلكَ الكتبُ والمكتبةُ العامرة، مَفْخَرَة أبوظبي.
كُنتُ أجُوس خلالَ رُفُوفِها أبحث عن هذا الكتاب أوْ ذَاكَ. ولا أذْكُرُ أنَّني بَحَثْتُ فيها عن كتابٍ ولَمْ أجِدْه. لكنَّ الكُتَبَ هَجَرَت أَوْكَارَها لترميم المبنى.

فالمكتبةُ هي سَكَني الروحي.. أخلو إليها لأعيشَ في عالَم الفكر والروح، بَعِيداً عن الصَخَب. إنَّ كُتُبي، كما قال فايدروس «تُخاطِبُني وتُخاطِبُ جميعَ القُرَّاءِ الآخَرين بالاسم». فمتَى تعودُ الطيورُ المهاجرةُ إلى وُكُنَاتِها؟

صحيفة “الرؤية” الإماراتية
25 مارس 2019

زر الذهاب إلى الأعلى