أخيرا، فكُّ العزلة. ……آ

أخيرا، فكُّ العزلة.
……آ
منذ ساعات رفع مارك القيد عن صفحتي، مع إنذار بأنِّي إنْ أنا عدتُ عادَ، كتمتُ التّهديد في صدري! .. فمن يُنصفني من ظلمه؟

قبل شهر، في مساء ساخن من مايو، انقطعتِ الكهرباء، انطلق آليا صوت مولد جارتي الأجنبية، كَهْل مُولّدات يَعوي بضجر، يُدخِّن بشراهة ويَسْعل، حتَّى في السكون تأبى السَّكينة الإتيان معه.. كنتُ ألوك قطعة جُبنٍ مالح، أسيِّح فوقها قضمة شوكولا، مع علمي أنَّ «في الجبن عارٌ»، وفي الشوكولا بَدانة.. غير أنَّي أكره التَّكلّس، يُمْتعُني أحيانا الإخلال بترتيبات الطعم في فمي، لكن أيضا في مزاجي وأفكاري،.. مثلاً، أنْ أخلط الحلو بالمالح، وأغلِّفُ الجدّ بالسّخرية، أنْ أمْشج الاشتراكية بالبرجوازية، وأدمج المُحافظة والتّحرر..

استحكَمَ الظَّلام،.. قمتُ أجرُّ اختناقي للخارج.. أطوِّفُ بصري في السَّماء، القمر حاسرٌ عن وجه شُبه مستدير، يتغاوى على الظلام، يُفسّر لليَّل معنى التَّخيل! .. قلتُ أتخاطرُ وإيَّاه، فبيني والقمر قصة عمر،.. كان كبيرا قريبا، جميلا كخطوات اكتماله.

أحاول نزع ذكريات ذات اليوم من اهتمامي، ففيه أنزل مارك أشرعة صفحتي، احتجز حرفي رهينة وجرَّدني من ألقابي لشهر، لأني ألصقتُ منشورا عن قوم ( لام واو طاء) عليه السلام.. استسلمتُ ذاتيا، راجعتُ عدَّاد الزَّمن، أُحصي كمْ من الوقتِ مكثتُ منضبطة استرضيه في فضائه،.. لكن فاتَ على مارك أنِّي في عالمه أقِيمُ دومًا قرب الحاجز الفاصل بين الحضور والغياب، بين الابتعاد والاقتراب، لأروّض التعود.. يتوهَّم أنه بعقوبته تلك تملَّكَ إرادتي في النّطق، وقد فاتَ عليه أيضا أنِّي لا أبحِرُ فيه على خطٍّ تجاري، ولا أحْمل بضاعة ولاءٍ لأحد، تترصَّدها عقوبة جزائية إنْ تعطلتُ عنِ الابحار.

ظلمني المتسلِّط حينَ ألبسني تهمة إشاعة الكراهية واللعب بمعايير مجتمعه!
فكرَّتُ أن أرفع مَظلمتي لعادلٍ بقربٍ أو بقرابة ليحكم عليه غيابيًّا،.. فكَّرتُ في بث مُباشر بحديث صامتٍ يُشهِّرُ به، أو في وساطة ممن لا يرد له وجه ولا وجاهة.
غير أنَّ عُقدة الصّمت حَسمت أمري لصالح تذكيره بأني أتقنُ السُّكوتَ على أصوله،.. توكلتُ على الله، فَعَّلتُ رُبع هُدوئي وكتبتُ إليه:

إلى عزيزي مارك..
لا، فذلك نفاق،.. لستَ عزيزي،.. فالمُناسب أنْ أناديك: سيِّدي مارك!، لأنك فعلاً سيّد سادة الكوكب وعبيده..

فعلاً، اعترضتُ عليكَ حين طالبتني سرًّا بمعاقرة أفكارك، وحين تسلَّمتُ منك طُرودَ مُلاحقةٍ بالعقاب، تَحْمل تبريرات مغلَّفة في انذارات ذات ملامح رعديدة، ومَننْتَ الإنعام عليَّ بإقامة مجانية فوق موجك، فسفينة الفيس لا تجري على اليبس،..
رميتَ بي في مرتبة مُنحدرة من التَّصفح، عارضًا عليَّ تقييد اسمي في لائحة الراغبين في الخضوع،.. أوعزتَ إليَّ أنْ أواصل تصفُّح إملاءاتك، لم أتملَّص وأطعتُك!.. أحسنتُ بكَ الظن فضولاً واقتفيتُ أثرك، لكنك أسلمتَ حُسنَ ظني فيك لسوئِهِ، فلم تلبث أن خيَّرتني بين إعادة النظر في هويتي أو مُحاسبتي، فاخترتُ العقوبة على ابتذال التَّوبة،.. أمهلتني ابتزازا!،.. لم أغيّر رأيي، فلا يُجدي قيمةً إرجاء قرار محتوم؟.. ، خفَّضتَ لشهرٍ سعرَ صرف حرفي، لكنه لم يكن يومًا للتداول، والسجن أحب إليه من التشرد على أرصفة ال.ش.و.ا.ذ.. أهكذا تريدني أن أكتب؟، أنْ احتال بالتنقيط على كلماتي، أن أُقطِّع أوصالها لتَغْتالها.. ثم تطلب منِّي أنْ «أقَبِّل الكَفَّ التي تَغْتالُ»،.. عصيتُك، فلستُ تلقائية التَّكيُّف سيدي، وما نَكونه يومًا عن وعيٍ نَكونه دومًا.

سيدي مارك..
لستُ من اللاعبات بمعايير مجتمعي ولا مجتمعك يا هذا!، بل من الحافظات لها! ..
والدليل، أنِّي لم استنكر على المعارضة تبادل القبلات الفاترات مع الموالاة، ولم أطعن في عفّتهما الديموقراطية، ولم أغتب غرام الصالونات المُرتَّب بينهما بأنه عديم الرّوح،.. لم أزعج نائبا ضَيَّعَ حُجَّتي نائمًا، أسمَعُ صوت غطيط نومه في مُكبِّر صوته،.. لم استهجن على المجموعة الحضرية قذارة وسط العاصمة المقيت،.. لم أشوّش على الإخوان، وهم يُنتجون حلقة من مسلسل “هدم الأوطان بالبهتان، غزوة مِصْر مُوريتان”.
لم أزعج شيخَ درهمٍ يُروِّج للجَنَّة أو لجهنَّم، ولم أجادله في صكوك الغُفران أو الحرمان، بل شجَّعتُ كل الشيوخ والمشايخ على احتكار خبايا السَّماء والانشغال بمزايا الأرض في آن، ولم أشترط في ذلك الاتفاق مع نقل أو عقل.. ورغم ذلك أفتيتَ بإعلالِ صفحتي عَسْفا!.

أنا يا مارك، لم أخرج على إجماع التَّفاهة الفيسية فيما أكتب، فالجماعة أمنٌ وأمان حتى بتصوراتها المشوَّهة.
تُدرك يا مارك، أنِّي لم أزعج الحكومة، ولم أكن يوما من القائلين بأنها تُبالغ في تأكيد ذاتها بغير صفاتها، العكس!،.. أقف منها على مسافة سَلاَمات، لا إشادات ولا انتقادات، فلا أنا أحْسِن الأولى ولا هيَّ تحب الثانية، .. لم أكتب أبدا عن الجسر السّاكن، فالسّكون سمة وقار، ولا عن انقطاع الماء وغلاء الغذاء، فما عجزتُ عن شرائه استغني عن اقتنائه .. لم يزعجني تقطّع المُكالمات وخدمات الاتصالات، فهي فرصة للصّوم عنك وعن اللغو،… أبحثُ للحكومة بإخلاص عن خاتم سليمان عليه السلام، لأُعِينَها على دَلَع المواطن البَطر، وساعة أجده سأجلسُ أمامها مبتسمة على ركبة ونصف، كالعاشق الولهان، أطلب وُدَّها، أضع الخاتم في يدها، وأقول لها: «شكرًا على واجب»… ومع ذلك ارتَهنتَ لساني وقيَّدتني أيها السَّقيم!..

أنا يا أنتَ، لم أنتقد مثلا أمْنَ الطرق وهو يتجاوز عن عبث “الوَاوْ” وعن تهديد “التُّوكْ-التُّوكْ” لسلامة المرور، وهو يغضُّ الطرف عن احتلال أخبيّة السِّلع لحوافِّ الطرق، واحتلال نقابة الشَّحاذة المهنية لظهر الطريق، لينشغل بتقييد سيارة فارهة تحرّشت بالرّصيف لثانية.. ومع ذلك صفَّدتني أيها اللئيم.

سيدي مارك!، أتعلم؟.. حلمتُ ذاتَ صباح وأنا في كامل صحوتي، بخريطة تحْملُ عَلَمًا، تحمل عِلْما وعَمَلاً وعَدلاً وأملاً، تحمل شعبًا صحيحا مُترفا مُرفَّهًا يحرسه جُند أشدَّاء على أعدائه رحماء به،.. وظللتُ أتعطَّفُ على الحُلم كلّما اقترب، أراوده عند نفسه إذا هو ابتعد، ولهذا السبب، لم انتصر يومًا لقبيل ولا لعشير، ولم أركن إلى ظلالِ أشجارِ النَّسب، .. ابتعدتُ بعيدا عن زحام الكلام السّاقط تلقاء مسمعك،.. أتفْهمْ؟، ما زلتُ أجدل في خيالي حزمة ألوانٍ زاهية أعصب بها صورة الوطن الحُلم… ومع ذلك أوثقتَ مخيلتي لتكبحَ الحلم أيها اللئيم.

سيدي، مِلتُ شهرًا للتقشف الإلكتروني، انتظر نفاذ العقوبة، أعترفُ أنِّي أدينُ لك بأشياء جميلة، منها أنَّ جدارك كان سندًا لحروفي الكسيحة، .. ففي هذه لا أكابر، وأقول: «أنا قلبي إليك مَيَّالْ».

سأكتفي بهذا القدر، تأخر الليل، لكن قبل أن أنهي رسالتي إليك،.. سأثرثر لكَ بنميمة في عِرْض الكهرباء،.. لقد صارت تُكثر الخروج دون استئذان، ربما تتسكع مع الماء في الخلاء،.. وما زلتُ أنتظر منها وعدًا بالعودة، وبالالتزام!

لم يُفلح معي التّجاهل في تبديد صوت مولِّد الجارة، كلما شَخر استبشرتُ، وقلتُ: «هذه حشرجة موته، سيريح ويستريح»،.. وبغتة يُعربد ثانية، هل تخشى صاحبته عكسنا وحشة الظلام؟،.. ربما تعتبر الكهرباء ضرورة، أما نحن فنعتبرها ترفًا، وفرض كفاية.

إنْ كانت هذه الانقطاعات مَقْلَبًا فلنضحك مع سوملك،.. وإن كانت سحرًا فاللهم ابطلهُ.

تحياتي.

الدهماء

زر الذهاب إلى الأعلى