الاغتراب في الشعر الحساني/ أحمد سيدي
أرتباطُ الشاعر بالوطن، وحنينُه إلى مرابع الطفولة والصّبا، ومنازلِ الأهل والأحبّة، ليس صِفة تلازمه دون غيره من أبناء آدم.. بل أزعُم أنّ تأثرَ غيرِ الشعراء بالغربة أشد، فتعبير الشاعر في قصائده عن ألم الغربة، وأمل العودة، قد يريح النفس قليلا؛ بينما يبقى الشجى مستوطِناً نفوس بقية المغتربين.
وعلى العموم فإن النفس البشرية تفضّل الاقتراب على الاغتراب، وهذا الشيءُ الذي يدعى الوطن، إما أن تسكنَ فيه، أو يسكنَ فيك.
وبما أننا سنتناول في هذا المقال موضوع الاغتراب في الشعر الحساني، فلا بأس بالمرور سريعاً على مفهوم الغربة في اللغة.
الغُرْبة والغَربة بضم الغين وفتحها هي البعد والنوى.. والغَرابة والغُربة والاغتراب كلها تُحيل إلى الهجرة والابتعاد عن الأوطان، ومن ذلك قول الإمام الشافعي رحمه الله.. مخالفاً مذهب الشعراء.
ما في المُقام لذي عقل وذي أدب
من راحة، فدع الأوطان واغتربِ
سافر تجد عوضاً عمن تفارقه
وانصب فإن لذيذ العيش في النصبِ
موضوع الاغتراب في الشعر الحساني، وما كتبه شعراء الحسانية عن الغربة، لا يختلف كثيراً عما كتبَه غيرهم من الشعراء، إلا أن تردّد صدى نصوصِ المغتربين في كتابات المهتمين بالشعر الحساني، يظلّ خافتا مقارنة بما كُتب عن الغربة في بقية الآداب العالمية. وذلك دافع استندت إليه في اختيار هذا الموضوع..
كما أن مُضيّ نحوِ أربعِ سنواتٍ على تلك اللحظة التي انضممت فيها إلى جمهور المغتربين، دافع آخر. فصدق التجربة، ومخاطبةُ القارئ من عين المكان، أجدر بالوصول إلى قلبه. وقد نقل الجاحظ في “البيان والتبيين” عن عامر بن عبد القيس قوله: إن الكلمة إذا خرجت من القلب، وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان، لم تُجاوز الآذان، وهذا ربما ما يفسّر شحنة الشجن التي تبثها نصوص المغتربين في نفوس القرّاء، لفيضِ ما تحمله من الشوق والحنين.
في منتصف سبعينيات القرن الماضي كان الأديب الموسوعي جمال ولد الحسن رحمه الله، في رحلة إلى موسكو، ولأن الأشياء تعرف بأضدادها ذكّرته أمسية من أماسي عاصمة الاتحاد السوفيتي آن ذاك، بنظيرات لها كنّ إلى قلبه أقرب.. فعبر عن ذلك قائلاً:
هذان فبّيْتْ أمسْكُ :: تاكِ وحدي عكبت أنهار
عاكب دهر ذاك.. الملكُ :: لله الواحد القهار
ليس البُعد الجغرافي أصعبَ ما في الغربة.. وإنما للبعد الثقافي، واختلاف الألوان، والأعراق، والألسن، والعادات، والتقاليد، والمذاهب، والعقائد، دور في تعميق إحساس الإنسان بغربته. وقد أشار إلى ذلك جمال، حين وجد نفسه إماماً في مدينة موروني عاصمة جزر القُمر فقال:
ذان عت أنبات ونصبحْ :: نرفد فالتخمام ونطرح
عت إمام.. ألهَ ما نصلح :: نقبض عت ونرفع ليدين
ونروغ السجود مجنّح :: ونروغ اتناظير الكرعين
وانبسملْ عت ونستفتحْ :: ونكر مــالك يومِ الدين
وراجِ عند الحي القيوم :: نرجع هك اللخيام إيلينْ
فلمسيد انصلّ مامومْ :: دارك فهجيج المامومين
وفي لحظة من لحظات الحنين إلى الوطن، افتقد الأديب الشاب عبدِ ولد إسماعيل ولد محمد يحظيه، نسمةً من نسائم كورسيكا “جزيرة نابليون” وهي جزيرة فرنسية تقع غرب إيطاليا، وكانت تلك النسائم إذا داعبت جسده تذكره بـ “ريح الكبلة” وما خلفته أعوام الاغتراب الطويلة من أثر في نفسه، ونفسيته.. فقال:
خالك سلك من الريح ايلوح :: من كبله فيه الروح تفوح
أنسنّد يلحكنِ مطروح :: نعرف عكبان الليالي
ويلحكن زاد افسلك الروح :: التالي ويرجعهالي
هذا وقته عاد من الليلْ :: حي أنتم إيلَ ولالي
ويلَ ما ولّ كنت أكبيلْ :: كاع افسلك الروح التالي
يحيل مفهوم الغربة لأول وهلة إلى مغادرة الوطن، وتلك إحالة صحيحة ربما، غير أن مفهوم الوطن يرتبط لدينا اليوم بالدولة، وفي ذلك نظر حسب رأيي، فالوطن هو تلك المنطقة التي عاش فيها الإنسان، وجمعته بأهله وأصدقائه، وقد تكون مدينةً أو قرية صغيرة في طرف من أطراف بلد ما.
وذلك ما يفسّر شعور أحدنا بالوحدة حين يجد نفسه في إحدى المدن البعيدة من المكان الذي ولد وعاش فيه، رغم عدم خروجه من حدود الدولة.
يقول الأستاذ دمب ولد الميداح:
افتمبدغَ فشدْ :: الغربة متوحّدْ
كيفنْ ريت النقصد :: تورالِ مولانَ
مجنون، وبات إيرد :: فم ولا خلانَ
يتّسع منّ حد :: وخلان وذرانَ
غير أحمدت المعبودْ :: ألا لُ ما جانَ
ذاك المجنون اعود :: ألّ مجنون آنَ
ويعبر المختار ولد الميداح رحمه الله عن حنينه إلى منطقة الكبلة، بعد أن أقام لفترة في ولاية أخرى من ولايات الوطن، فيقول:
تشواش الكبلة ما نزيد :: فيهْ، و”هون أنا” مانشيدْ
بيه، أصلانَ نبغي العيد :: كبله بي ألّ بال
راهُ فالكبلة من أبعيد :: والعند من لهالي
كبلة والعند من الغيد :: كبلة وال تزهالِ
كبلة، والكبلة ما تشكْ :: فيان يكفِ حالِ
عن سؤال وفذاك يكـــــفي حالي عن سؤال
انتقل الأديب الشاب أحمد ولد بيداه بحكم عمله إلى ولاية لعصابة، وهو الذي تربى وعاش في مدينة بوتليمت، وككل الشعراء ظلت نفسه تتوق إلى العودة، وظلّ يسليها بمشاغلَ أخرى، إلى أن سقطت القطرة التي أفاضت الكأس.. فقال:
يحمام الكمري فوك اعراش :: الطلح انت تالبنِ لاش!
اتراني عن وكري منحاش :: ابعيد ولاني مشمشِ
وتجين بنواع التشباشْ :: وتجيني بنواع اتفرشي
وانتم ألا بيّ لسقامْ :: أنجي، وانتم ألا نمشِ
مانك عارف عن يحمام :: الكمري ماني حامل شِ
لا يرتبط تأثير الغربة في النفس بمدة معينة، وإنما هي لحظة يشعر فيها الأديب بالحنين إلى جزء من ذاته، قد تأتي تلك اللحظة، بعد عام.. وقد تأتي بعد أعوام عديدة، وأحيانا تأتي قبل ذلك بكثير.. فثلاثة أشهر مرت على المرحوم الولي ولد الشيخ يبَّ في رحلة لقضاء بعض شأنه، أخذت من نفسه كل مأخذ، فكتب واحدة من روائع أكلال:
لبيظ فالغيبة فات مات :: لول.. والثاني مات كات
لولْ.. والثالث ما تلات :: منو ماهي عشرايَ
والعشرايَ راهي مْشاتْ :: فمحصولي للغاية
وجبرت الغاية.. غير ريت :: من بطوِ عن منايَ
كد الوساني ماتليت :: فالغاية مول غاية
وليس ببعيد من هذا يحاول لمغني محاولة يائسة للتخفيف عن نفسه التي تساقط شوقاً إلى ذلك اليوم الذي سيحل فيه القاف محل الغين في كلمة الاغتراب:
يان بطوك ذ الشق بيك :: لا يبك فيك أخير فيك
كتبه عربيك ألا عليك :: واصبر مسله مكتوبة
مسله مكتوبة كاع ذيك :: تعكب هي لعكوبة
أدعات مجيك وذاك جاد :: هون المحسوبة نوبة
ومشيك تعكب تدعيه زاد :: كيف مجيك المحسوبة
وبعد عام أمضاه محدثكم بعيدا عن أرض الوطن، وجد نفسه يقول:
اليوم امكمل عنك عام :: واعشر عيمان امن التخمام
فيك، وعيمان أخرَ فهرام :: الفگد وتوحاش أهاليك
اليوم امكمل عنك تام :: عام، انتيّ ذ فات اعليك؟
فات اعليك اني ريت أيام :: ما تشّابه ليامِ فيك؟
فات اعليك اني رغت افطام :: عنك واني غلبتن ذيك؟
فات اعليك انْ لبتيت التام :: عادي بيه الا عادي بيك؟
ايْهْ اشحالك يلْ ما ترتام :: الي خاطيك.. اشطاري فيك؟
واشحال انزيلات وفرگان :: معطن للفقه وللقرآن
والحديث وعلم البيان :: واشحال انزيلات أورَ ذيك
ابلد لحسان، ابلد ليمان :: ابلد منّ اعليك الناشيك
بيه، اشحال أكسَيْبْ ورعيان:: أدردم من لمّات اعليك
أشحالْ أنزايل من حسّانْ :: من دم اگلوبتهَ تسگيك
اشحال الصنّاع الفتيان :: اشحال احراطين اتماسيك
بمدايح مرسول الرحمن :: اشحال اكور لاهي تبنيك
بالعلم، ولاهي تبنِ شانْ :: بيه أعل خاطيك أتعلّيك
الله لا جازيت بْلحسان :: لمزوگنِ عن موريتان
ومزوگ غيري من شبان :: موريتان الا يالمليك
لا جازيتُ بحسان ايتان :: اعليك بلحسان اتجازيك
الشغلة عادت زغب السان :: والثروات الفيك أعليك
بالمارة، ماراها قرّان :: يموريتان التگت ذيك
يمش عنك زعيم افمان :: بالفال الْ زعيم مخليك
ويلَ عاد الي راخس كان :: فيك ارخس فيك اللاهْ يجيك
ودعـتـــك لله يلـبــــلاد :: يالمتوحش كل أشبر فيك
ابگد احصيك.. ونبغِ زاد :: كل اشبر فيك ابگد احصيك
أحمد سيدي