قيض من فيض عن العلامة الشخ محمد الحسن الددو

“ذات خريف ماطر، قبل عقدين وثلاث سنوات، التقيت في مدينة تمبدغة شرقي موريتانيا بالعلامة الشيخ محمد الحسن الددو أول مرة، حيث وصل إلى تلك الربوع في رحلة دعوية قادته لجل مناطق البلاد.
ألقى محاضرة في المسجد الجامع الأكبر في المدينة، ثم وزع فتوى حول خطورة تعطيل صلاة الجمعة في القرى والتجمعات السكانية، ووجوب إقامتها، كان من ثمارها المباشرة مبادرة العديد من القرى – من ضمنها قريتي بوصطة – لإقامة صلاة الجمعة في مسجدها لأول مرة.

أغضبني حينها – وكنت ما أزال شابا حدثا – موقف مشايخي الفضلاء جماعة الجامع العتيق في تمبدغة عند جلوس الشيخ على المنبر لتقديم محاضرته، والذي عبر عنه الشيخ الفاضل الإمام ولد صالح رحمه الله بقوله: “هون وحدين إسولو كان أعلم انت ول خالك محمد سالم ولد عدود، ذاك ما كط جانا وانت جاي اتكَر علمك!..”.
أما الشيخ الددو فلم يغضب، ولم يستفزه السؤال، بل ضحك، ومد يده للشيخ مصافحا، وقال له: “اللا لاه نتوافقو على ذاك اللي عدل أول سفير أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة مصعب بن عمير رضي الله، فقد قال لهم تسمعون مني فإن رضيتم أمرا قبلتموه وإلا كففت عنكم ما تكرهون، ولكم علي أن لا أغادر قبل الإجابة على ما تطرحونه من أسئلة”، فقال الشيخ الإمام ولد صالح: “هذا الص منصف، تفضل”.

تحدث الشيخ حديثا مؤثرا أبكى الحاضرين، وفي نهاية المحاضرة قال: هل فينا الآن من يلبس لباس جده؟ هل من بيننا من يسكن في مسكن جده، من يرضى أن يكون غذاؤه كغذاء أجداده، وظروفه كظروفهم يركب كما كانوا يركبون؟ ويشرب كما كانوا يشربون؟! إن التكليف على قدر النعم. ثم قال: مثلنا ومثل أجدادنا كمثل حي كان في بطحاء في سنوات قحط وفجأة إذا بسيل جارف يتجه نحو المساكن، ثم التفت إلى الإمام ولد صالح رحمه الله وسأله: هل يتركون السيول تجرف المساكن أم يتحركون لرد السيول وتحريف مجراها ليخف ضررها؟ فأجابه بعفويته: إلين ما يتحركو إعودو ازويگلين. فضحك الجميع. عندها قال الشيخ: هذا هو حالنا مع آبائنا، هم لم يقصروا لكن سيل المنكرات الجارف الآن عبر كل الشاشات ومناحي الحياة أدركنا ولم يدركهم، لذلك قررنا التحرك، ثم إن الله من علينا بنعم لم تكن في عهدهم وأوجب علينا استخدامها في خدمة دينه وتغيير المنكر.
هنا تأثر الإمام ولد صالح رحمه الله وقال بصدق وعفوية وتقبل للحق يغبط عليه: جاوبتني، جاوبتني، والله أل حگ، والله ال حگ..
عند انتهاء المحاضرة تشبث المشايخ بالشيخ الددو وطالبوه بالمبيت معهم، ولم يسمحوا له بالمغادرة إلا بعد أن تعهد لهم بالمرور بهم في طريق العودة، وذكر لهم أنه وعد أهل النعمة بإلقاء محاضرة بعد صلاة المغرب، وهم في انتظاره..

موقف آخر مؤثر عن محب آخر للشيخ الددو، ومن لا يحب الشيخ الددو؟!
تذكرته الآن ضمن مواقف كثيرة للشيخ خلال مسيرته الإصلاحية داخل البلاد وخارجها، تترآى أمامي، وتتزاحم..
هذا الموقف حصل في العام 2003، حيث تعرض الشيخ لوعكة صحية أثناء وجوده بأحد سجون ولد الطايع بعيد فتواه المحرمة والمجرمة للتطبيع، فقد كتب الكويتي جاسم المهلهل مقالا التمس فيه من الحكومة الموريتانية أن تسجنه مكان الشيخ الددو، وأن تترك الشيخ يواصل رسالته العلمية والدعوية والإصلاحية حول العام.. فهو سيغتبط بمنحه شرف أن يفديه بنفسه في السجن
كنت خلال هذه الفترة في المملكة المغربية، فاتصلت مساء بالشيخ الدكتور أحمد الريسوني على هاتف المنزل ( لم يكن الدكتور الريسوني يستخدم الهاتف النقال، وكان وقت اتصالي مظنة وجوده ببيته) حدثته عن الوضع الصحي للشيخ، فطلب مني أن أرسل له تقريرا عنه بواسطة الفاكس على أن يتصرف بناء عليه من الغد.
لكنه بعد وقت من إرسالي للتقرير، أعاد الاتصال بي نفس الليلة، مؤكدا أنه بعد أن طالعه لم يستطع النوم قبل أن يريح ضميره بنصرة هذا العالم العامل الصادع بالحق..
أما مواقف الشيخ في القوة في الحق، والصدع به، والوقوف مع المظلومين، ونشر العلم والدعوة بوسطية واعتدال، والصفح وسلامة الصدر، والدفع بالتي هي أحسن، ومقابلة المسيئين بعكس أخلاقهم فلا يمكن إحصاؤها أو حصرها..
لقد حرصت على ذكر مواقف عايشتها، بل اقتصرت على بعضها فقط، كان ذلك قبل موجات التواصل الاجتماعي وفوضية التعبير، ونضال لوحات المفاتيح..

ورحم الله شهيد القدس الشيخ ولد بلعمش وبوأه منازل الصادقين، فقد عبر عن الموريتانيين بل عن جمهور الأمة الواسع حيث قال في الشيخ الددو:
هو البحر أما عمقُه فَانتِماؤُهُ *** وأمَّا اللآلِي فالنُّهى ونَقَاؤُهُ
وأمَّا جبالُ الموج فالعلمُ والتُّقى *** وأمَّا الذي يرجُو الورى فَعَطاؤُهُ
وأمَّا شواطيهِ فَشعرٌ وحكمَةٌ *** وأمَّا مداهُ فالرؤى وذكاؤُه
سوى أنه عذْبٌ وفي البحر ملحةٌ *** ولا يَختشي رُوادُهُ وسِقاؤُهُ
وحينًا أراه الشمسَ لولا غروبُها *** ومن مغربٍ أحيا القلوبَ ضياؤُهُ
فيا شيخَنا لا تاسَ إمَّا تطاولوا *** لِكلُّ كريمٍ في الزمان ابتِلاؤُهُ

وحفظ الشاعر الشهم، ولسان شنقيط الصادق الدكتور ادي ولد آدبه، حين قال في أبيات لها عنوانها: “أيها الشيخ.. أنت شنقيط”:

نَضَّرَ اللهُ.. وَجْهَكَ.. المُسْتَــــــهلاَّ
قَمَرًا.. فِي الوُجُودِ يَهْدِي.. الأضَلاَّ
مِلْءَ مِرْآتِـــه.. سَرَيــــرَةُ شَـــيْخٍ
طَاهِر القلْب.. مَذْ تَخَــلَّى.. تَحَـلَّى
فتَرَدَّى مَهَــــابةً.. وجَـــــــــلالاً
حِيــنَ – لِله – وجْــهَـــهُ قــدْ أذَلاَّ
وَتَــدَانَى – وهْوَالرفيعُ – يُسـاوِي
فضْلُهُ الكُلَّ.. لمْ يُخَصَّصْ بـــ”إلاَّ”
يَغْمُرُ النَّـاسَ.. بشْــرُه.. وجَـدَاهُ
ويَفـيـضُ العِـرْفَانُ .. أنّى أطَــلاَّ
تُخْبِتُ الأرْضُ.. إنْ تَجَلَّى عَلَـيْهَا
إنَّ فِــــــيهِ نُــورَ الإلَـــــهِ تَجَلىَ
أيُّهَا الشيْخُ.. أنْتَ شِنْقِـيطُ.. وجْهًا
وَلِسَـــاناً.. عِلْـماً.. وسَمْــتاً.. ودَلاَّ
مَنْ يُكَرِّمْكَ.. عَمَّ شِنْقِـيطَ.. فَضْلاً
مَنْ يَنَلْ مِنْكَ.. ضَـامَ شِنْقِيطَ.. كُلاَّ
غَــيْرَ أنَّ الكريمَ.. فِيــكَ..تَـسَامَى
وأبَى.. أنْ يَزِلَّ.. أوْ يُسْــــــتَزَلاَّ
فدَعِ المُـرْجِفِينَ.. مَهْـــمَا تَمَادَوَا
سَتَظَلُّ الشـــيْخَ “الدّدَوَّ” الأجَـلاَّ

حفظ الله الشيخ الددو وأبقاه لموريتانيا بل للأمة الإسلامية، وتقبله من جهده الدعوي والإعلامي والإصلاحي..”

الهيبه الشيخ سيداتي

زر الذهاب إلى الأعلى