في المقبرة …/محمد المهدي محمد البشير
في المقبرة…دخلت إحدى مقابر مدينة نواكشوط في وقت متأخر من الليل- وكنت استضيء بهاتفي- فما راعني إلا ضريح رجل كان من أهل الجاه والحظوة والتأثير والأناقة – في هذه البلاد – يتبوأ من الوظائف حيث يشاء، وكانت أمنية كثير من الساسة أن تكون لهم به صلة، أو يجدوا إليه طريقا، وهو أحق بقول القائل:
خذاني فجرّاني بثوبي إليكما ** فقد كنتُ قبل اليوم صَعْباً قِياديا
وقوماً على بئر السُّمَينة أسمِعا ** بها الغُرَّ والبيضَ الحِسان الرَّوانيا
بأنّكما خلفتُمـــــــاني بقَفْرةٍ **تَهِيلُ عليّ الريحُ فيها السّوافيا
يقولون: لا تَبعَد وهم يَدْفِنونني ** وأينَ مكانُ البُعدِ إلا مَكانيــا
ثم مررت بضريح سيدة فاضلة من سيدات “مجتمع البيظان” كان تأثيرها كبيرا، وحضورها قويا، ومجلسها عامرا، وبيتها مقصودا لمن استطاع إليه سبيلا….
وَماذا يُواري القَبرُ تَحتَ تُرابِهِ**مِنَ الخَيرِ يا بُؤسَ الحَوادِث وَالدَهرِ
ثم فاجأني ضريح رجل من معارفي موطأ الأكناف، ظريف لطيف بشوش، فوقفت هنيهة داعيا له ومتأملا، وتذكرت بعض عادات العرب التي كانوا يفعلونها عندما يمرون بقبر رجل كريم :
فإذا مررت بقبره فاعقر به ** كوم الجلاد وكل طرف سابح
وانضح جوانب قبره بدمائها ** فلقد يكون أخا دم وذبائح
لقد انفضت عنهم جموع المادحين، وتنكر لهم المنافقون، وتركهم الأقارب، ونسيهم الوشاة، وصار أكثر جيرانهم من خاملي الذكر من أموات الفقراء والمحرومين، والمنسيين، والمهمشين.
ولولا لبنات تحيط بأضرحتهم لداست رفاتهم أقدام لم يكن أصحابه يتجرؤون على مد أيديهم لمصافحتهم أو الاقتراب منهم
ألا إنَّما الدُّنيا نَضَارة ُ أَيْكة ٍ**إذا اخْضَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ جَفَّ جَانبُ
هِيَ الدَّارُ مَا الآمَالُ إلاَّ فَجائِعٌ **عَليْها، وَلا اللَّذَّاتُ إلاَّ مَصَائِبُ
فكمْ سخنتْ بالأمسِ عينٌ قريرَة ٌ**وَقَرَّتْ عُيُوناً دَمعُهَا الْيوْمَ سَاكِبُ
فلا تكتحلْ عيناكَ فيها بعبرة ٍ**على ذَاهبٍ مِنْهَا فَإِنَّكَ ذاهِبُ
محمد المهدي /محمد البشير