للعقلاء …/الحسين محنض

عقلاء..

ملاحظات كثيرا ما نبهت إليها في مجال السلوك الديني الذي يجب أن نتحلى به أجدد نشرها على هذا الفضاء:

“لماذا نتصارع نيابة عن أفكارنا؟
عندما تتعصب لفكرتك تفقد فرصة ثمينة للاستفادة من فكرة أخيك، وفرصة أخرى أثمن لمراجعة فكرتك لعل أخاك يكون هو المحق، فالحقيقة إذا كانت مطلقة فإن إدراكك لها نسبي في أغلب الأحوال، لأن الإدراك المطلق للحقائق المطلقة خاص بالضروريات، وإذا كانت نسبية فلا يمكن أن يكون إدراكك لها إلا نسبيا، ويقينك بشأن فكرتك قد يكون صحيحا، لكنها لا تتحول إلى فكرة فعالة إلا إذا نجحت أنت في اكتساب الآخرين لها، أو نجحوا هم في التوصل إليها كما توصلت أنت إليها.
وكل هذا الجهد الفكري والعقلي الذي تتطلبه كل حقيقة على حدة لا بد أن يتسبب في اختلاف واسع بين البشر، لأن كل حقيقة أم يتولد عنها عدد لا متناه من الحقائق الجزئية، وتأليف هذه الحقائق في ما بينها يولد بدوره حقائق جزئية جديدة في ذهن المفكر أو المتلقي الذي بدوره ينتج بمجرد الإمعان فيها حقائق حزئية جديدة، تتناسل كما يتناسل البشر.. ووظيفة العقل الأساسية -أو من وظائفه الأساسية- ترتيب هذه الحقائق الجزئية المختلفة وتسييرها تسييرا مثمرا لا رفع الاختلاف عنها لأن ذلك مستحيل، فطريقة إنتاجنا لأفكارنا تغرس فينا تلقائيا أسس اختلافنا، فإما ألا نفكر وإما أن نختلف..

كلما قتل شخص أو أجبر على التسليم بأفكار غيره خسر العالم حقائق لا متناهية ربما كان في الإمكان أن تقود إلى حضارات أكثر تطورا بكثير مما نشهده الآن، فعالم الحضارة الإنسانية لا يقاس بعدد ما ينجب من الأفراد لأن تلك وظيفة العالم البهيمي، بل بعدد ما ينجب من الأفكار.

هذه الكلمة أردت بها التهيئة للدعوة إلى إعادة نسقنا الفكري إلى وضع صحي يسمح لنا بأن نعترف ونقبل باختلافاتنا كي نتمكن من مواصلة التفكير وإنتاج الحقائق بدون عوائق أو إكراه، في مناخ لا وصاية فيه على أحد حتى يمكن كل منا من الاستفادة مما عند أخيه من الأفكار..

كثيرا ما حاولت -وما زلت أحاول- نشر مثل هذه الروح في الأمة لإدراكي أن مشكلتنا اليوم ليست في تباين مذاهبنا الإسلامية وتعددها بل في أن أضيق الرؤى في هذه المذاهب هي التي تسيطر اليوم، فالتاريخ الذي نعيشه منذ فترة تصنعه الأفكار الأبعد عن الوسطية سواء بين أهل السنة في ما بينهم أو بينهم وبين غيرهم من المذاهب، والنتيجة طبعا أننا إذا لم ننتج طوفانا من الأفكار المعتدلة نغرق فيه الأفكار المتطرفة فإن الأفكار المتطرفة لن تقودنا إلا إلى مزيد من تطاحن هذه الأمة التي وإن نجحت في عدم الاختلاف في التوحيد المطلق لله تعالى -فلم تقل بالتثنية ولا بالتثليث كما فعل اليهود والنصارى- فقد أخفقت في وضع حدود واضحة للمقبول من الاختلاف وعدم المقبول منه، بحيث ضاقت في هذا العصر إلى أبعد الحدود دائرة المقبول منه مقابل عدم المقبول.

وفي محاولة لجمع الطوائف الإسلامية البارزة من حولنا اليوم على كلمة سواء كنت قلت:

إن قال شخص قد أسا بما كتب
سليل تيمية فالزم الأدب

وهكذا تلميذه ابن القيم
فكم لذين من كتاب قيم

وهكذا البوصيري وابن العربي
الحاتمي اذكرهما بأدب

فإن يقل شخص بدا لي كفر
هذين قل مخالفوك كثر

وإن يقل حاد عن الصواب
محمد بن عابد الوهاب

فقل إمام من أئمة الهدى
بلغ بالتوحيد أعظم مدى

وإن يسئ لأحمد التجاني
مستند إلى كتاب الجاني

فقل أحيلك إلى ما كتبا
في سيله الجارف بعض النجبا

وحسن البنا إذا ما ذكره
بالسوء شخص لا تصدق خبره

وقل فتى جاهد في الله وقد
ضحى بنفسه فليس ينتقد

وهكذا الدعاة إن نقل عن
طريقهم أشيا بها فيهم طعن

فقل رجال عمروا المساجدا
ولن أذم راكعا أو ساجدا…

أليسوا كلهم مسلمين تجب محبتهم وتوقيرهم، وتنبيههم إلى ما أخطأوا فيه برفق واحترام، كما تقتضي مقتضيات الدين الحنيف ومرتضيات العقل الحصيف؟

الحسين ولد محنض

زر الذهاب إلى الأعلى