سُحْقاً لعهد البلاغات الشعبية/ محمد فال ولد سيدي ميله

منذ ثلاثة عقود من الزمن السلحفاتي الموريتاني المُقعد، لم يَعْلق بذهني أي خطاب رئاسي باستثناء اثنين أحدهما للمرحوم سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله عندما أعلن، سنة 2009، في “حفل” تنازله عن السلطة، أنه “غادر، كما جاء، بقلب خالٍ من كل كراهية تجاه أي أحد”، وأنْ “لا تثريب” اليوم على من أجاءوه إلى جذع النخلة دون مقدمات وأخرجوه من تحت ظلها دون مبرر وجيه. والآخر لمرشح الرئاسيات محمد ولد الشيخ الغزواني، عندما قال، خلال عرض برنامجه الانتخابي سنة 2019: “أمّا أنا، فسأجعل التنمية الاجتماعية في قلب اهتماماتي، ولن أترك أحدا على قارعة الطريق”.

كان لكل من هذين الخطابين وقعه الخاص وطعمه المميز، فالأول هز المشاعر لمسحة الحزن بداخله، ولمرارة الموقف، ولما ينشر من نسائم الصدق الفطري الملفوف بعواصف الألم السياسي. أما الثاني فهز المشاعر بحسن اختيار العبارة في زمن تراكم فيه الناسُ، نخبة وغوغاء، على قارعة طريق الأمل السيزيفي بعد حكم أعجف، وسياسة عجفاء، وعشر عجافٍ عشناها بلا بوصلة.

بقي الخطابان يتيمان في مخيلتي الخرفة. فكل خطابات الرؤساء الموريتانيين، في شتى التدشينات، وفي أعياد الاستقلال، بما فيها خطابات الرئيس الحالي، مجرد “نسخ” ولصق، وتكرار ممجوج لشريط من موسيقى الكهوف الباهتة على نمط برقيات وبلاغات السبعينات: “سلام تام وتحية وإكرام.. العجْلَه تُخبر الأهلَ في حاسي لحريْثات أنها رزقت غلاما، وأنهما بخير، ولا داعي لقدوم أحد. وسيداتي يطلب من زيدان استقباله بجمال في المطار، والأمر أمر خير”. أسطوانة تتكرر، تنشدها حتى مزابل تيفيريت، تكره سماعها حتى حيطان إذاعة موريتانيا، يعاف دخولها حتى مرمى فريق المرابطين.
وعلى هذه الحال، ظل الأمر كما كان. خطابان فقط، من بين آلاف المحفوظات الرئاسية المملة، لا ثالث لهما في الأهمية على مدى كل هذه الفترة الطويلة في معراجنا الأعرج. غير أن خطاب ودان حول الظلم الفئوي التاريخي، وخطاب نواكشوط حول الاختلالات المشينة في إداراتنا، فتحا مخيلتي مجددا لينضافا إلى الخطابين الآنفين لأنهما، في الحقيقة ودون تسييس، غير مسبوقين في محتواهما. فحول الفئات المطحونة رأينا الرئيس غزواني يلبس، ضمنيا، عباءة المحامي الماهر، إذ رافع بذكاء عن ملف معقد ظل السبب الحقيقي وراء فشلنا في بناء دولة المواطنة. فقال، في ما قال: “إنّ مما يحز في نفسي كثيرا ما تعرضت له هذه الفئات في مجتمعنا تاريخيا من ظلم ونظرة سلبية، مع أنها، في ميزان القياس السليم، ينبغي أن تكون على رأس الهرم الاجتماعي، فهي في طليعة بُناة الحضارة والعمران، وهي عماد المدنية والابتكار والانتاج. ولقد آن الأوان أن نطهّر موروثنا الثقافي من رواسب ذلك الظلم الشنيع”. وحول الفساد والإفساد الإداري قال، في ما قال: “إن الإدارة الموريتانية تعاني من اختلالات شنيعة، وأنه آن الأوان لبناء إدارة عصرية وفعالة”، مطالبا كل عديمي الكفاءة أو المتلاعبين بمصائر الشعوب أن يفسحوا المجال لمن هم أجدر.

وإذا كان لي أن أنصح الرئيس، فإنني أقترح عليه أن يُحْدث قطيعة ثورية تامة مع خطابات الحشايا المنفوخة التي تدفعنا إلى النوم أثناء نشرة الأخبار، وأن يعتمد مثلَ خطابيْه الأخيريْن الذيْن تناولا واقعا مريرا مزريا، وشجباه بقوة، ودعيا إلى تجاوزه بصرامة، وحلّلا أسبابَه وتداعياته، وتركا أثرهما الإيجابي الرائع في نفوس الناس.

زر الذهاب إلى الأعلى