طلال وحتى حمادي… وغيرهما من عباقرة العراق كنوز بشرية
لقد سمعت بمدينة بروج أو بريج ، على اختلاف التراجمة في نقل حرف U اللاتيني، غير الموجود في لغتنا ، لأول مرة في أغنية حزينة للشاعر والفنان الرائع جاك بريل..
وأنا بعد في سني المراهقة الأولى..
وهي أغنية مفجوعة يتحدث فيها مع جده عن بروج حين كانت لندن مجرد ضاحية منسية في العدوة الأخرى لبحر الشمال…
جاك بريل عرف دون غيره كيف ينقلني ويرميني في غائر الجراح ومرير البلوى ودونما استئذان …
وهو فوق ذلك من القلة الذين يخلقون في السامع حالة إدمان مرضي بشعره وصوته وتلاحينه ..ومع كل سماع يكتشف السامع/الضحية أشياء لم تخطر له على بال وينتبه لمعان جديدة وباهرة ومتوالدة..!
لم يتوقف الأمر-بالنسبة لي- على بريل وأوجاعه وأناته….منذ أن أهدتني صديقة بلجيكية.. تعود أصولها لإقليم فلاندريا، رواية عظيمة لكاتب فريد، عنوانها بروج الميتة.. وهو جورج رودنباخ.
تفاعلت أحداث الرواية العجيبة وتفاحشت في ذهني على إيقاع بريل المتوثب دوما للانقضاض عليّ في حالات وجدانية خاصة وحميمة وعصية على الفهم والسرد..
وبهرتني الرواية المكتظة بالرموز والنازفة بالحزن ..وكيف لا والشخص الرئيسي فيها هو مدينة بروج نفسها وبشكل يتقمص فيه المكان تسلسل حيوات الشخوص.. ويتطابق معها بشكل رائع وبطرائق موغلة في فنون غير مسبوقة في عوالم الدهشة..والإثارة؟
تركت فيّ عبقرية رودنباخ زوابع.. وتوابع مازالت تلعب بداخلي أنى شاءت.. وكيفما شاءت.. لذلك قررت الذهاب إلى هناك وليس لي غير جاك ابريل وجورج رودنباخ من دليل!
زوال يوم ربيعي من القرن الماضي، وجدت نفسي في زورق يطوف بي قنوات ماء لمدينة العشاق.. وعاصمة الفن المتحدية لريح الشمال والصامدة.. في وجه أوبئة القبح المتفشي في كل مكان من هذا العالم الشرير والمحتقن…
مدينة فقدت جبروتها منذ زمان لكنها ظلت جميلة وراقية ، ترشح بالرقة وتفيض بالحب.
تحت كل جسر مررت منسابا على صفحة الماء ..سمحا ومتبتلا كخرير جدول..
وكانت حمائم الأيك تغرد على القباب..وتتلمس الظلال ..
وتذكرت حمائمنا وقت الهاجرة وهي تتلوى ألما بين الماء والطين .
العابرات كلهن قصائد ..والجالسات كلهن غناء ومواويل ..
ثم انتهى الطواف كما تنتهي دوما طقوس التعبد والخشوع في محراب الجمال الحق.. وعرفت ان بروج كانت سيدة زمانها في نهاية القرون الوسطى وموضع الثروة ومركز التجارة لكن القنوات التي ربطتها ببحر الشمال غلبها الطمي واندثرت وتحولت من ميناء أوروبا الأكبر إلى مجرد بلدة وادعة ومنسية.
في بروج عرف الزجاج رونقه، وفيها تسامى الفخار، وكانت أنوال القماش تنتج للعالم أجمع وفيها عائلة البورس التي نظمت في بيتها القائم دوما في الجادة الكبرى بوسط بروج أول سوق للسندات والمضاربة الموازية.
انه السوق الذي حمل اسمهم للشهرة في كل مكان صارت فيه بورس أو بورصة كما عرّب المشارقة اسم العائلة البروجية العريقة.
وغير بعيد من بورصة البورس تسامت في العلياء كنيسة قوطية عجيبة أجراسها من إبريز وقرعها غريب وفي إيوانها الفسيح تحت القبة وقف أجمل نصب أبدعته أيدي ميكيل آنجلو للبتول مريم..
وهو تمثال في غاية الإتقان ويتخطى في فنيته وجلالته كل أعمال العبقري الايطالي الأكبر المتوزعة على دول أوروبا المختلفة.
رحت هائما في طرقات بروج ..وأحسست بها مليسة كالحرير حين يناغي نهود الصبايا، مشتاقة تسعى لمشتاق ..
منعتقة كالنهرعند ما يرتمي في حضن البحر.. ومشيت ومشيت حتى انهكني التعب فقلت:
اجلس قليلا والتقط انفاسك.. واخترت أفخم المقاهي وجلست على أريكة وثيرة، طلبت فنجان قهوة، وقلت لنفسي اكتب شعرا أو نثرا وانشره على صحف التبليغ ولا تخشى عيلته.. وتوكل على الله.
وبينما أنا منهمر كالاضواء السوداء على الاريكة التي تظللها سقيفة المقهى.. مر أمامي رجل متوسطي القسمات، حاد الأنف، يلبس جاكيتة من جلد أحمر.. وبنطالا من جينز أسود..
وعلى رأسه هامة من شعر كثيف ومرعب، يصل قطرها لمتر أو يزيد وصعقت مما فعل بنفسه..
وقلت لنفسي لعل به مسا من جنون..وقلت وكيف لاوهو لم يحلق شعره من ربع قرن ؟
ماهي الا لحظات حتى توقف الرجل صاحب الهامة الكثيفة كغابة ظلماء من أدغال افريقيا البعيدة.. وهي الغابة المجعدة والمتموجة كحمم بركان هادر.. وألقى نظرة على الجالسين تحت السقيفة وابتسم ودلف الى الداخل ثم جلس قريبا مني على طاولة كان ينتظره عليها رجل ستيني ..وقور.. أبيض الشعر.. كأنه من جحاجيح النصارى في أناقته وترتيبه وكياسته.. واستغربت من مدى تناقض المظاهر بين الجليسين ….وما هي الا لحظات حتى تناهي الى سمعي شيء من حديثهم وخلتني سمعت كلمات عربية لم استطع أن أتبينها فابتسمت نحوهما وقلت بصوت مسموع سائلا هل الأخوة عرب؟
فتهللا وقال صاحب الهامة الكثيفة نعم ومن العراق فقلت له وهل صاحبك هذا أدونيس عقل؟
فقد كان الرجل الوقور يشبهه في الملامح.. وفي كثافة الشعرالابيض المتناثر.. فابتسم الرجل المسن.. وقال: لا.. اسمي طلال ومن العراق أيضا.. وأضاف:
انضم الينا نتحدث قليلا بلغتنا فاقتربت وجلست معهما .
عرفت أن الأول رغم بوهيميته الظاهرة، محدث لبق وفنان كبير وعارف بقضايا الأدب العالمي واسمه حمادي.. وأصله من جنوب العراق بل لعله من اصل هاشمي فاخر…
وقد جاء الى هذه الربوع بعد مقام طويل أمضاه في دراسة الفنون الجميلة بايطاليا ويعيش منذ زمان في مدينة خنت …
وقد كان منذ صباه فنانا بالفطرة.. من النوع الذي يرسم صور العرايا على رداء أبيه وعلى جدران الحارة ..
وقضت نزعته الفنية على كل كوامن الشر وميول العدوان فيه لذا رفض الجندية والحرب لاسباب فلسفية خاصة..
فسجن.. وعذب ..وهو مصّر على رفض فكرة القتل ..ولما اطلق سراحه وتمكن من الخروج من العراق التحق بالحياة التي يريد للفن وللفن فقط.
الشخص الثاني عبقري كبير- مجهول عند العرب- واسمه طلال عبد الله ويعود أصله للموصل وجاء الى بلجيكا لدراسة الميكانيك والرياضيات في بداية السبعينات ونال شهادة في التخصصين من جامعة خنت وجامعة آنتويرب لكن جينات الفنان تمكنت من الامساك بتلابيب روحه واستعادت موروث أكد وبابل وآشور…
وأصبح في وقت يسير من أكبر الرسامين في العالم .
الفنان طلال رجل كريم وفاضل،وهي خاصية كثيرا ما لمستها في عرب العراق، لذا أصر على دعوتنا الى تناول العشاء ببيته الجميل المطل على ساحة فخيمة في قلب بروج…
وبيت الاستاذ طلال ليس بيتا عاديا فهو من الآثار والمزارات البروجية العجيبة انه متحف يعج بالقطع الجميلة والرائعة التي جادت بها أياديه وأتحفت بها النوع البشري لما فيها من ابداع في الزوايا والظلال.
طلال فيلسوف يعرف أشياء عن الكاووس بحكم معرفته للهندسة ومهارته بالحسابات والجبر.. ولذا يمكن القول أن مفهوم الفوضى المنتظمة انتقل إلى فن الرسم عبر هذا المبدع.. وقد انسجم المفهوم مع انثيال الضوء وترامي الشرر وارتداده وتراقصه وكأن شيئا لا استطيع تسطيره قد تنقله لكم تلك اللوحة التي تنافس نبلاء العالم على اقتناءها وتحاربوا وبلغت في المزادات العلنية مبالغ تخطت الأسعار المعاصرة لنتاج كل كبار الرسامين في العالم.
مهارة صديقي طلال ونجاحاته تجلت في قدرته الفذة على التفوق على كل رسامي اللوحات الزيتية والماء وتجاوزه في البورتريه لكل جهابذة الفن وأساطينه وهو لم يقلد أحدا ولم يتتلمذ على أحد بالمعني الجامعي للكلمة …ترخص كثيرا وتوسع وحوّل الغرافيك من تقنية رقيعة إلى رسم نبيل وادخل الحواسيب لقياس الزوايا والتحكم في الظلال ولم تفقد رسوماته تلك اللمحة الإنسانية الساحرة التي هي سر فرادتها وحجرها الفلسفي.
زوجة حمادي سيدة فلمنكية راقية عملت في السلك الدبلوماسي لبلادها..ثم استقالت وتفرغت لمؤازرته في تأسيس مدرسته الفنية وتنظيم أوقاته
وقد خلدها في أكثر من لوحة مشهورة طافت بعواصم العالم أجمع.
الفن يصقل الروح وهو غذائها.. والرسم عند الأوربيين يعادل الشعر لدينا ..هوباختصار ديوان العجم وخازن تاريخ الروم …
وعند طلال يختلط الشعر بالرسم وتلبس كثافات المادة ألطاف الروح ويهيمن العنصر السماوي على كل ما هو أرضي وذلك جلي في كل إبداعاته.
حدثني عن ماضيه وعذاباته.. وحدثته عن عذاباتنا وحاضرنا الحزين ..
وفي المساء الموالي كنت أجلس معه في مقهى مطل على الجادة الكبيرة حتى مرت أمامنا سيدة موريتانية تلبس ملحفة مزركشة بألواننا وقد اختلط الأحمر فيها بالأخضر بالأزرق ..فقال لي هذه تلبس لوحة بديعة !
قلت له مفاخرا انها من بلادي وان النساء كلهن منمنمات ومراسم متحركة ..وكلهن فن وجنون!
اقترب منها باسما وقال سيدتي هل تسمحين بصورة ؟
لقد كانت جميلة رغم اكتنازها.. وقورة ومحتشمة..لكن زوجها المتخلف كان يتبعها كالقرين الحارس وغضب من ملاطفة الفنان المسن لعقيلته ..وأزبد وأرعد فابتسم طلال وقال لي ساخرا لماذا دائما حراس التحف متوحشون هكذا!
شرحت لعابر السبيل.. ان ما اعتراه تسرع وسوء فهم.. لفنان سمح عفيف.. ولا حاجة له بزوجته بل بملحفتها وتباريح الوجد المرسومة عليها …ولم يستطع فهم الفكرة..
ولا التقاطها فتركناه وسبيله وفارقناه ..!
اقترح عليّ طلال دراسة الفن والتفرغ له لكن واجبات عائلية وبقايا من رواسب البدو منعتني من قبول عرضه .
في الطريق إلى محطة القطار كان أهل البلدة ..أكابر وبسطاء يتسابقون لتحية عبقري بروج وفنانها الأكبر طلال عبد الله الموصلي العراقي الذي أكتب عنه هذه الحروف محاولا تسليط نقطة من ضوء على موهبة عربية أصيلة وعقل متوقد وطفاح وكلي يقين أنني لم أعطه حقه من التنويه والشكر.
طلال وحتى حمادي… وغيرهما من عباقرة العراق كنوز بشرية نادرة وعقول نظيفة راقيه وما كان لهما الوصول إلى مراتب الشهرة والعالمية لولا ظروف العراق وحروبه التي جعلت منه شعبا مشتتا في أصقاع العالم..
وأعطت رغم كل الابتلاءات لنخبة العراق ما وهبته الحرب الأهلية النخبة الاسبانية من تواصل بالعالم وعلومه وهي النخبة الرائعة التي أعادت بناء اسبانيا وتمكينها من تجاوز العثرات … بعبارة أخرى أكثر وضوحا من كان مهندسا بسيطا في العراق جعلت منه سنوات الغربة وفرصة الامتياح من روافد عديدة وثقافات مختلفة مبدعا في علمه الأصلي وفي علوم عديدة وهذه هي ثروة العراق الحقيقية التي لا يضاهيه فيها أي بلد في العالم وهي العقول والسواعد التي يمكن ان تقوم بمسؤوليات النهضة العراقية والعربية لو تمكن ساسة العراق من تجاوز طائفيتهم البغيضة ومحاصصاتهم السخيفة.
أتمنى أن يكون صديقي طلال قد استطاع العودة للعراق بعد عقود من الغربة والاندماج الناجح في بروج ..الميتة حسب رودنباخ … بروج ..المتوهجة كما تمور في رسوم وآثار عبقري العراق وبيكاسو العرب دون منافس.
محمد أمين