الفن.. المعلومة.. وبعض الصَّراحة.
الفن.. المعلومة.. وبعض الصَّراحة.
………..ا
في هذه المدينة المفجوعة كمدًا بمجاعة الروح، الباهتة ترفيهيا، المَجْلوطة فَنِّيًّا، خيَّارات التَّنفيس معدومة لمن لا تستهويه خِيَّم شوارع المشوي، ولا مَجالِس الشَّيِّ البَشري.
الفُرجة الفنية الوحيدة المتاحة الآن محصورة في المناسبات الاجتماعية، وليس سرًّا أن أداء الفنَّانين فيها لم يَعُد يَجلب المُتعة، بل غدى يُفقد السكينة سكينتها،.. فالفن هو الآخر مكروب بالميوعة الأثيمة، وتحوَّل الأداء لصُراخٍ مُقرف، فقد ضاقت أبواب آذاننا عن انعاش هيستيري بملاحِم رياء من “اتْهيدينْ” شاحب التَّمجيد، يستثيره جُنوح مَنفعي لاستدرار “الـزَّرگ” في استنزاف سَقيم للمُحتَفي واستفزاز للذوق العام،.. “الزَّرگ”-بشكله الحالي- فعل بطرٍ متخلّف..
“لبْـتُوتَ” كذلك تردَّت في مُنحدر التَّسليع التِّجاري نحو اللاَّمَعنَى، فبدت مُكرَّرة، مُملَّة، مُتطابقة الكلمات كالاستمارات الإدارية، جاهزة مُسبقا لا ينقصها غير الأسماء ،.. لقد قَتَلَ أهل المَغنى “الهول” وجعلوه في مستوى “الغذاء مقابل الغناء “، وقد صدَّقْنا على قتله حين سايرنا التّيار بالمداهنات والمُصانَعات.. إن اقتضى وسهرتُ أو أنصتُ في حفلٍ، «فربّ مُنتَصِتٍ والقلبُ في صَمَمِ»، .. فوحده السَّمك المَيِّت ينسابُ وفقًا لهوى التَّيار.
يطول انتظاري لحفلٍ هادئ يُناسبني، تمامًا كما تطول رحلة انصاتي المتذبذب خلف أصوات تصعد لتتبخر.
أتذكر في هذا الفراغ صوتًا مازال بيننا، يُلامسُني بإصرارٍ ثابتٍ ولو بعد قَطيعة دهرٍ،.. صوت المعلومة!
فمنذ اكتشَفتُها أجد رغبة ثابتة تُحرِّضني على حضور حفلاتها، ألزِمُ نفسي بركن هادئ أدفع ثمن مقعدٍ فيه لينتمي إليَّ، ولا أتحرَّجُ أن أردِّدَ خَلْفها، أنْ أضاحك شعوري بصوتٍ عالٍ، أن أصفِّقَ، أن أتمايل، أن أعايشها.. تسكَّعتُ مرَّات مع شلَّتي على أطراف مهرجاناتٍ لحزبها، فقط لنَسمع وَصْلتها المُستعرة، ثم ننسحب قبل أن تتكالبَ ألسنة السَّاسة المُتخشِّبة على الميكرو،.. فقد شيَّدتُ باكرًا في عقلي سرحًا من الزُّهد في لَغْوهم.
لا أعرفُ بدايات المعلومة، عثرتُ لها على شريط ذات تنقيب، كان من حفل زفاف لقريب لنا، بتسجيل بدائي غنَّت من “الهول” وغنت لشريفة فاضل، «اللّيل مَوَّال العشَّاق»، بمقدرة وبلكنة مضبوطة وكأنها هيَّ، فخزَّنتُ اسمها في ذاكرتي.
استُغِّلت جاذبية المعلومة المُؤثرة لتسويق السياسية كمناضلة حزبية، ثم استَثمرت هيَّ لاحقًا حصيلة شعبيتها لتُمارس السياسية مُحايَنةً، وبين هذا وذاك ستظهرُ كاشفةً عن حالةٍ وِتْرٍ في فنِّنا، تَتسمَّى «المعلومة» بِأَلْ التَّعريف،.. حالة لم نألفها، فريدة في صوتها، في لونها بزخمه الموسيقي المثير، في كسرها لرهاب التجديد… طوَّرت من مستواها التعبيري، خرقت أزلية استنساخ موروثنا الفني لأصله، وطوَّعت جماليات الإلهام الموسيقى لصالح أغانٍ بألحان تُلبِّي معيار جمال النَّغم،.. فعرفنا معها ألحانًا حيَّة في مقاماتها ومساراتها، سَلسَة في تركيباتها، تَلمسُ أحاسيس وعواطف جمهور من الشباب “ماهُ مژيوَنْ” تقليديًّا، ومتعطشٌ لإيقاع وليد زمانه..
آخَتِ المعلومة بين جَمالين، حُسنُ صّوتٍ مُعزَّز بوَسامة الصُّورة،.. تَملك مَلامح غير تقليدية، وتعابير مِطواعة، تُصيِّرُ انفعالاتها بلُيونةٍ طَوْعَ رغبتها، كفءَ عاطفتها، بين الفرح والشَّجن والغنج، وتُعَبِّر أصابعها بحركات رشيقة، خاصة بها،.. كسرتِ الصُّورة النَّمطية لمظهر “التِّيگويتْ” في اللبس، في الحُلِي، في التسريحات، في الألوان، شكَّلت قطيعة أنيقة مع البَهرجة الفاقعة لبنات جلدتها …وعمومًا يَبْقى لكلِّ أنثى «Un petit quelque chose» يُكْسِبُ روحها سِحرًا مُنفردا خبيئا.
كان أول لقاء بيننا في مصر، كنتُ تَكْمِلة من غير ضرورة لِلاَئحة من شَخصين هُما مديرتي المُباشرة وأنا، وكانت هيَّ رفقة وكيل أعمالها آنئذٍ، شاب من أهل الساحل،.. ذكرت لنا أنَّها تَتفاوض مع دوائر فنِّية مِصريَّة، لكنها اصطدمت منهم بأشياء لا تُناسب تمسُّكها بهويَّتها، منها الاحتكار والغناء باللهجة المصرية، ومنها التَّخلي عن الملحفة، ثم أضافت: «فايِتْهم عنَّا عندنا احراگفْ ما يصلحو لاآجْرادْ»،.. ضمَّنا حيّ المهندسين بالقاهرة، كانت مديرتي في سنِّ التَّعقل والثبات وكنتُ عكسها في سن الاندفاع، والانبهار بالنجوم، أُشعِلُ كُلّ الحطبِ المُتاحٍ تحت الفراغِ لأشاغله، فأختلقُ ألف عُذرٍ لأجرجرها مساءً تُجاه المعلومة بعد أنْ اكتشفتُ أنَّها “مَلِهْيَه بيها الشّعره”،.. لكن المعلومة تنخرط كلّ مساء في أورادٍ طويلة.
نَمَت في أذهاننا تصاعُديًّا ولسنين صورتها كمناضلة شرسة تَمورُ تَمرُّدًا في عُذريَّة البدايات، وتُبادل العهد مواثيقه في صفوف المعارضة، يوم كانت المعارضة على قيد المعارضة.. وذاتَ ظُهرٍ من يومٍ كئيب مشيتُ خلفَ جنازة تلك الصورة وأسدلتُ سِترًا دونها، فصارت إلى طيٍّ.
استمالتها السّياسة إلى دوَّامتها، بمعارجها، بمصاعدها، بانحداراتها وانزلاقاتها، وربما بمواردها اللحظية سهلة المنال، فالمال يخدم المجد الفردي للإنسان.. إلاَّ أن السِّياسة كما السَّاسة في هذا البلد المنكوب بهما، علَّة عضوية، تُشبه في الأغلب – حتى لا أقول في الأعم – مَكْرَ الوَرم الباطني، اعتلالها دَفين الإتْلاف مُستمرّهُ، وإن كان نافر التناقض في تعدد أوجهه وفي وجهته الوحيدة،.. فلسيَّاستنا وجه مُحتَرِق ووجه مُحْتَقَر، لها وجه خدَّاع ووجه نِفاق بقِناع، ولها وجه “امْشَنْكر” بلا لحم،.. أمَّا الوجهة الأكيدة فهيَّ الوصولية في المُعْظَم..
تمنيتُ لو أبقتِ المعلومة على فنّها لذاتِه الفنية، لوسَعت إلى كَماله في جَماله، لو لم تتورَّط مع نمط سياسي غير خَليقٍ بأن يُذبحَ الجمال على نُصب وحله المَعيب وغير المَهيب،.. وخشيتُ أن تكون حصيلة جمعها بين الشَّتِيتَين “معلومة مُشتَّتَة”،.. ذلك نصيب من قناعتي.
في كل لقاء استمعُ إليها بكلِّي الذي يتقبَّل بعضها ويتجاوز البعض،.. ولقاء بعد لقاء بَعيدٍ، بعد سنين، تُنضِجُ الأيام سَمْتها على مهلها في غفلة من تَمرُّدها،.. وكلّما تَداعَت صوبي انطباعات سالفة عن أيَّام ابداعها الكادح ونضالها الصّبور، أعمدُ إلى تحييدها من مساحة إدراكي، إذْ لم تعد مُتداركة!..
حين أصغي إليها، أُقصي لوقتي ذاك “معلومة السِّياسة ” وأجُزُّ من ذهني تَبِعاتها من الجُذور، وأُبقِي على “معلومة الفن” فقط دون شوائب، عَلِّي ألْمَسُ جوهر ما قَدِمتُ من أجله، وهو أن أجتمع بصوتها على مقاسِ متعة..
لم أبحث يومًا أنْ أصل معها نشوة الطَّرب، فَلِي في الطَّرب مِزاج ثقيل، مُتخمِّر ومُدرَّع،.. لكن حُنجرتها السَّخية تجذبني لعوالمَ من الجمال الصَّافي، من الإغواء الفني بارتجالاتها الصَّوتية العالية “العاتْنَه”، من فخامة الفُرجة على حالة كاريزماتية جذابة مُلكها وحدها،.. أحسَستُ مرَّات أنَّ العِرْقَ الأسود بين جوانحي مَهووس بصرخاتٍ لها سامية، من اقتباسات أسَى “البلوز” تُقطّع بها وصلاتها، تُقفل بها، ثم لغمزٍ على عصبِ “جاز” مُتمايلٍ صحبة تقاسيم عفوية لم تكن في الحسبان،..
تَحْمِلني المعلومة إلى مفازات بعيدة النِّياط من الإحساس المريح، في لحظاتها التي تضبط فيها أوتار “آردين” فوق صدرها، إلى اليسار قليلا شَفا قلبها، ثم تطوِّق نفسها لتُرتِّقها بشاعرية… فذلك أجمل سبيل لوجودها!
تحياتي.
الدهماء ريم