ليعلم الجميع أن في دين الإسلام فسحة../ د. رقيه أحمد منيه

الحمد لله على نعمة الإسلام وكفى، والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى. وبعد،
فإنه من قواعد الشرع السماحة ورفع الحرج ودفع المشقة وجلب المنفعة والتوسعة على الناس في المباحات، ولا يحصل استمداد ذلك إلا بتبيان جانب الرحمة في سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، فقد أفلح من سار على نهجه واقتفى أثره، وخاب وخسر من تخطفته بنيات طرق الزيغ والضلال عن المحجة البيضاء.
ثم إن تعداد مواضع الرحمة والإشراقات النورانية في سيرة خير البرية صلى الله عليه وسلم معين على تقديم صورة الإسلام الناصعة، ذات الألوان المتوازنة التي لا يطغى لون منها على لون، وإن كان الحصر في جناب التوقير من الصعوبة بمكان؛ ولكن لا مناص من أخذ قبسات تنير ليل المشتاقين لرؤية طلعته البهية، وتزيح عن الأفئدة ثقل الأثقال، وتفتح للنفوس بابا إلى محبة عظيم الخصال، والاستمداد بأقوات القلوب من سيرة الهادي إلى علام الغيوب، يتقوى بها السالك سبيل الاتباع، ويروي بها ظمأ العيون والأسماع.
من وصفه الخالق سبحانه وتعالى
بقوْله: ﴿بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾
يقول ابن الجوزي في تفسيره:
“قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: سَمّاهُ بِاسْمَيْنِ مِن أسْمائِهِ.
وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: “رَؤُوفٌ” فَعُولٌ، مِنَ الرَّأْفَةِ، وهي أرَقُّ مِنَ الرَّحْمَةِ؛
ويُقالُ: “رَؤُفَ”، وأنْشَدَ:
تَرى لَلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْكَ حَقًّا
كَفِعْلِ الوالِدِ الرَّؤُفِ الرَّحِيمِ
وَقِيلَ: رَؤُوفٌ بِالمُطِيعِينَ، رَحِيمٌ بِالمُذْنِبِينَ”.

ثم إن التعرض لجانبي الرحمة والسماحة في الإسلام أثناء تناول الألسنة لمسألة بعينها، ليس التماسا لأحسن المخارج لحادثة معينة، بقدر ما هو توضيح لقاعدة عامة، غفل الكثير عن استعمالها في محلها، أو استحضارها على الأقل عند الحديث عن الآخرين؛ تتبعا لعثراتهم أو بحثا عن سقطاتهم أو حملا للمجتمع على اتباع طريق  الانفصام، ويقصد به هنا الإظهار لثوب الجد، والإسرار للميل جهة المزاح والبحث عن التفكه.. والفكاهة في القول والتصرف، كسرا لروتين الحياة المعاصرة،
فتجد البعض يعيش بين نمطين أحدهما باعث على الالتزام والآخر داع إلى التخفف من أعباء العمل والتماس فسحة في عالم التعب والكد والجد، وما علموا أنه لا تنافر بين الأمرين، إذا كان التفسح مباحا لا يخالطه دخن المخالفات المنصوصة، ولا يكدر صفوه لهو أو لعب مذموم، والأمر ليس بالعسير، إذ ضوابطه معلومة محفوظة لمن رام روح السماحة، وابتعد عن التضييق ، والورع لا يفتى به كما يقال، و”الأمر إذا ضاق اتسع”، و”المشقة تجلب التيسير”، واستحصاب العديد من القواعد الفقهية في هذا المقام قد يضيق عنه المجال وكذا المقال..
وقد ‏ﺳُﺌِﻞَ ﺍﺑﻦ ﻋﻤﺮ رضي الله عنهما:
“ﻫﻞ ﻛﺎﻥَ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ﻳَﻀﺤَﻜُﻮﻥ، ﻗﺎﻝ : ﻧﻌﻢ ، ﻭﺍﻹﻳﻤﺎﻥُ ﻓﻲ ﻗُﻠﻮﺑِﻬِﻢ ﻣِﺜﻞ ﺍﻟﺠِﺒﺎﻝ”.حِليةُ الأولياء.
و‏سئل ابن سيرين عن ‎الصحابة: “هل كانوا ‎يتمازحون؟ فقال: ما كانوا إلا ‎كالناس. وكان ابن عمر ‎يمزح وينشد الشعر”.أبو نعيم في ‎الحلية.

وكل المباحات أمرها يسير إذا تم تسييج طرفها جهة الممنوع بسياج التقوى، لأن المباح لا تبعة فيه كما ذكر
الشاطبي:« المباح من حيث هو مباح، لا يكون مطلوب الفعل، ولا مطلوب الاجتناب لأن؛ المباح عند الشارع، هو المخير فيه بين الفعل والترك، من غير مدح ولا ذم، لا على الفعل ولا على الترك، فإذا تحقق الاستواء شرعا والتخيير، لم يتصور أن يكون التارك به مطيعا؛ لعدم تعلق الطلب بالترك؛ فإن الطاعة لا تكون إلا مع الطلب، ولا طلب، فلا طاعة». الموافقات في أصول الشريعة.

هذا إذا تم ترك التجاوز نحو المحظورات؛ وتلك محصورة تفضلا من الكريم الرحيم جل جلاله، ومبينة بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، قال الحق سبحانه وبحمده: ﴿قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗاۖ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱلله إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ ۝١٥١ وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُواْ ٱلۡكَيۡلَ وَٱلۡمِيزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ لَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۖ وَإِذَا قُلۡتُمۡ فَٱعۡدِلُواْ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰۖ وَبِعَهۡدِ ٱللَّهِ أَوۡفُواْۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ ۝١٥٢ وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ۝١٥٣﴾.( سورة الأنعام). فقد حصرت الآيات المحرمات؛ يقول ابن جزي في تفسيره:”لأن قوله ما حرم ربكم: معناه ما وصاكم به ربكم بدليل قوله في آخر الآية”.
ويقول ابن عاشور:”والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكم وصّاكم بِهِ﴾ إلى مَجْمُوعِ ما ذَكَرَ، ولِذَلِكَ أفْرَدَ اسْمَ الإشارَةِ بِاعْتِبارِ المَذْكُورِ”. التحرير والتنوير.
وقاعدة رفع الحرج من القواعد العامة للتشريع الإسلامي، يقَوْلُ الله  تَعالى: ﴿وَما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِينِ مِن حَرَجٍ﴾.
أخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ مِن طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ سُئِلَ عَنِ الحَرَجِ؟ فَقالَ: “ادْعُوا لِي رَجُلًا مِن هُذَيْلٍ فَجاءَهُ فَقالَ: ما الحَرَجُ فِيكُمْ؟ فَقالَ: الحَرَجَةُ مِنَ الشَّجَرِ الَّتِي لَيْسَ لَها مَخْرَجٌ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هَذا الحَرَجُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مَخْرَجٌ”. الدر المثور.
ويقول الإمام السيوطي في تفسيره: “أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، وابْنُ مَرْدُوَيْهِ، «عَنْ عائِشَةَ: أنَّها سَألَتِ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ هَذِهِ الإيَةِ: ﴿وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾ قالَ: الضِّيقُ».
ويقول ابن جزي:” ﴿مِنْ حَرَجٍ﴾ “أي مشقة، وأصل الحرج الضيق”. تفسير ابن جزي.
وذكر ابن عطية في بيان مَعْناهُ: “مِن تَضْيِيقٍ، يُرِيدُ: في شِرْعَةِ المِلَّةِ، وذَلِكَ أنَّها حَنِيفِيَّةٌ سَمْحَةٌ”. المحرر الوجيز.

ويقول القرطبي: “وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدْخُلُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَهِيَ مِمَّا خَصَّ الله بِهَا هَذِهِ الْأُمَّةَ. رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أُعْطِيَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ ثَلَاثًا لَمْ يُعْطَهَا إِلَّا نَبِيٌّ: كَانَ يُقَالُ لِلنَّبِيِّ اذْهَبْ فَلَا حَرَجَ عَلَيْكَ، وَقِيلَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ: “وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ”. وَالنَّبِيُّ شَهِيدٌ عَلَى أُمَّتِهِ، وَقِيلَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ: “لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ”. وَيُقَالُ لِلنَّبِيِّ: سَلْ تُعْطَهُ، وَقِيلَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ:” ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ”. الجامع لأحكام القرآن.

وأخرج البخاري من حديث عروة بن الزبير ، أَنَّ عائشة، قَالَتْ : لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا عَلَى بَابِ حُجْرَتِي وَالحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ فِي المَسْجِدِ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ ، أَنْظُرُ إِلَى لَعِبِهِمْ زَادَ إبراهيم بن المنذر.. عَنْ عروة، عَنْ عائشة، قَالَتْ : ((رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ)). صحيح البخاري.
وخرجه في كتاب: المناقب من طريق عقيل، عن ابن شهاب، ولفظه: رأيت النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يسترني وان أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، فزجرهم عمر، فقال النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((دعهم؛ أمنا بني أرفدة)) يعني: من الأمن.

وخرج مسلم – أيضا – من طريق ابن جريج: أخبرني عطاء: أخبرني عبيد بن عمير، قال: “أخبرتني عائشة، أنها قالت للعابين: وددت أني أراهم، فقام رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وقمت على الباب أنظر بين أذنيه وعاتقيه، وهم يلعبون في المسجد”. صحيح مسلم.

وأخرج الإمام أحمد، عن وكيع، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت:” كانت الحبشة يلعبون يوم عيد، فدعاني رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكنت أطلع بين عاتقه فأنظر إليه، فجاء أبو بكر، فقال النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((دعها؛ فان لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا))”. المسند.
قال القاضي عياض: “فيه أقوى دليل على إباحة الرقص إذ زاد النبي صلى الله عليه وسلم على إقراراهم أن أغراهم”. اهـ. نقله المواق في سنن المهتدين والونشريسي في المعيار، وأقراه وإذا علمت كما سبق عن مسند أحمد أنهم كانوا يرقصون ويقولون: محمد عبد صالح ظهر لك أن تسميته لعبا تجوّز، وإلا فذكر المصطفى لا يكون معه اللعب، وإنما يكون في الجد”.
والرقص المذكور إنما يعني ما فعله الأحباش من المقارعة بالحراب على سبيل العرض.

وقال الزرقاني في شرح المواهب:” لعله أراها لعبهم لتضبطه وتعلمه فتنقله بعد للناس” اهـ، واصله لابن بطال قال: “يمكن أن يكون تركها لتنظر اللعب بالحراب لتضبط السنة في ذلك، وتنقل الحركات المحكمة إلى بعض من يأتي من ابناء المسلمين، وتعرفهم بذلك اهـ نقله عنه شارح الإحياء”.
ويمكن أن يكون الأمر محمولا على مشروعية اللعب بالأدوات غير المشتملة على محرم، كما في فقه الحديث:” وفي الحديثِ: حُسنُ خُلُقِه الكَريمِ، وجَميلُ مُعاشَرتِه لِأهلِه. وفيه: فَضلُ عائِشةَ، وعِظَمُ مَحلِّها عِندَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.وفيه: مَشروعيَّةُ اللَّعِبِ بالرِّماحِ وما يُشبِهُها -كالعِصيِّ- ما لم تَشتمِلْ على مُحرَّمٍ”. الدرر السنية.

وقد يكون من باب مراعاة حداثة سن أمنا أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها- و هذا الاعتبار ورد في الصحيح؛ ((كانَ الحَبَشُ يَلْعَبُونَ بحِرَابِهِمْ، فَسَتَرَنِي رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأَنَا أنْظُرُ، فَما زِلْتُ أنْظُرُ حتَّى كُنْتُ أنَا أنْصَرِفُ، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الجَارِيَةِ الحَدِيثَةِ السِّنِّ، تَسْمَعُ اللَّهْوَ)). صحيح البخاري.
وعليه فإن مراعاة تفاوت الأحوال والسياقات سبيل لفهم التبصر السليم؛ لأن تعدد الاعتبارات والسياقات معين على تحديد التصور، بشرط التمسك بالمنهج القويم للرحمة المهداة للعالمين نبي الرحمة عليه أفضل الصلاة والسلام.

سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

زر الذهاب إلى الأعلى