رافضون داخل أروقة الحكم

5-مانهاتن
واجهت مباشرة بعد تعييني في الرئاسة زوبعة من الرفض. رافضون داخل أروقة الحكم، بالنسبة لهم أنا سأنافسهم على الحظوة لدى الرئيس ومدير ديوانه. أما المعارضة فأنا بالنسبة لهم هو أكبر خائن لها على وجه الأرض.
دبج عليون سيسي، رئيس تحرير “الشمس” كبرى يوميات البلاد، سلسلة مقالات رائعة خصصها للهجوم على شخصي، حيث كان يستخدم فن التورية ببراعة. أتذكر مقالا بعنوان “بروتس” يشبهني فيه بابن يوليوس قيصر بالتبني. عندما قام أعضاء مجلس الشيوخ بطعن ديكتاتور روما (الديكتاتور في تلك الفترة لم يكن وصفا وإنما وظيفة)، لم يتفاجأ من خيانة أي سيناتور إلا بروتس.
رفع بروتس خنجره ليطعن قيصر روما في ظهره، عندها نظر نحوه والدم يسيل من جروحه متسائلا : “حتى أنت يا بروتس؟”. ثم استدار نحوه بصعوبة، كي يمكنه من طعنه في الصدر. وهي قمة النبل، حيث أن قيصر كان يربأ بيروتس أن يكون من الذين يطعنون في الظهر.
أتذكر كذلك مقالا آخر شبهني فيه ب “ياگو”، وهو إحدى أبرز شخصيات “أوتيلو”، رائعة شكسبير. حيث أن أوتيلو وهو جنرال فينيقي من أصل افريقي ويدعى
Othello le Maure
كان يعشق زوجته ديدمونة وكانت تبادله الحب. وكان أوتيلو كذلك يحب صديقه ياگو ويثق فيه كثيرا. ولكن ياگو كان يكره أوتيلو ويتهمه بمعاشرة زوجته إيميليا، وهو طبعا اتهام كاذب.
في إحدى المعارك وقع اختيار الجنرال أوتيلو على الضابط الوسيم كاسيو لكي يقود قلب الهجوم، وكان له الفوز ضد العدو وهو ما أشعل غيرة ياگو، فقام بتدبير خطة جهنمية : قال للجنرال إن زوجته ديدمونة تخونه مع كاسيو.
جن جنون الجنرال أوتيلو من الغيرة وقام على الفور بقتل زوجته ديدمونة. بعد ذلك اعترفت إيميليا بكذب زوجها ياگو فتم اعتقاله على الفور. عندما اكتشف الجنرال أنه ظلم زوجته انتابه الندم ولكن سبق السيف العذل. فأقدم على الانتحار.
يرمز ياگو في أعمال شكسبير إلى شخصية الخائن بلا منازع. وهو ما جعل مقالات عليون سيسي تلاقي صدى واسعا، ما دفع طلابا إلى الاعتداء علي في باريس. اعتقلتهم الشرطة وفي المفوضية بكى أحدهم وطالبني الآخرون بالسماح فسحبت الشكوى وغادرتهم، وأنا أشعر في قرارة نفسي بالألم، ليس بسبب الضرب ولكن بسبب كلمة الخائن.
قبل تعييني هاتفني مدير الديوان وبعد السلام أبلغني برغبة الرئيس في لقائي وختم قائلا : نحن هنا في نيويورك للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للامم المتحدة. ندعوك لمرافقتنا كعضو في الوفد. سترى يأم عينيك كيف نعمل. أنت مواطن ورئيس بلادك يريد فقط الحديث معك. بعد ذلك أنت حر تقرر ما تشاء. سأحيلك لسعادة السفير.
بعد دقيقتين سمعت السفير يقول بصوت خافت : أنا خرجت عنهم. الرئيس في الجناح المجاور ينتظر جوابك. قال إنك إذا وافقت سيرسل لك طائرته الخاصة.
فقلت وأنا حائر : لست أدري..
فقاطعني ضاحكا : هيه، اعطين منك العافية. خليني نجي فم في طائرة الرئيس. ونعيط ل أم الدار ترجع معنا وتزور نيويورك كضو. وأنت ألا اركب معنا و استمع للرئيس ولا تقول كلمة واحدة. بعد ذلك نرجع جميعا صوب تورونتو.
فضحكت قائلا : أيو أوكي..
والطائرة تحلق فوق مطار جون كينيدي في نيويورك استعدادا للهبوط، قلت للسفير : سبحان الله، قبل عشرة أشهر فقط، كنت أغادر هذا المطار مصفدا بالأغلال..
فقال ضاحكا : وها انت ترجع لنفس المطار، يوما أو يومين قبل تعيينك وزيرا أو مستشارا ههه.
فأجبته متجهما : أح ما نعرف..
استقبلنا سفيرنا في نيويورك عند باب الطائرة وكان سفيرنا في واشنطن ينتظر عند باب الفندق. دخلنا الجناح. في البهو كان مدير الديوان جالسا يتصفح جريدة. وقف لاستقبالنا وسلم علي بحرارة. ثم قال لي “وددت لو وجدنا متسعا من الوقت للحديث، ولكن فخامة رئيس الجمهورية ينتظرك، وسبق أن سألني مرتين إذا كانت طائرتك وصلت”.
قادني المدير العام لتشريفات الدولة نحو صالون داخلي. كان الرئيس جالسا يتصفح عناوين الصحافة على جهاز آيباد. وضعه ووقف مبتسما : أخيرا نلتقي. بعد عبارات السلام والترحيب بادرني : أولا وقبل كل شيئ، طمئني على صحة الوالدة. شنهي أخبارها ؟ ثم استرسل يسئلني عن أفراد أسرتي فردا فردا، حتى خيل إلي أنه يعرفهم أكثر مني ههه.
بعد صمت قصير استرسل : أيو شوف، انت تبارك الله مانك الحد الثاني. حال البلد ما خافي عليك منو شي ما شاء الله. ش ظاهر لك ف ذ كامل ؟
فعرضت عليه صورة قاتمة عن واقع البلد. كان عرضي طويلا نسبيا. انصت باهتمام، كانت قسمات وجهه تشي بالتفاعل والإنصات العميق. في إحدى المرات قاطعني مشيرا بأصبعه وقال : دقيقة، ذهب نحو درج أخرج منه دقترا وقلما، رجع مكانه. رن جرس أحد أجهزة الهاتف التي توجد أمامه، فتجاهله واختار جهازا آخر، هاتف من خلاله شخصا. ثواني قليلة ودخل مدير التشريفات. أعطاه جميع الهواتف وقال له : من فضلكم لو سمحت، لا يدخل علينا حد.
ثم نظر نحوي قائلا : آسف جدا على المقاطعة. كنت تقول إن لديك ثلاثة أفكار تساعد على ترشيد موارد الدولة. كلي آذان صاغية.
تكلمت وفصلت. عندما انتهيت أخذ هو الكلام وقال : شوف، هذا الي قلت موافقك ف ياسر منو. وفم نقاط اختلف معك فيها.
ثم أجاب على جميع ما قلته نقطة نقطة، وبنفس الترتيب، بداية بالنقطة الاولى التي تكلمت عنها. وأحال لي الكلام للتعقيب. بعد أخذ ورد كانت الساعة تشير إلى الثانية. قال لي : نصلي الظهر جماعة ؟ فقلت بكل سرور. خرج صوب الباب وسمعته يقول “هل يمكن لو سمحتم عن ذوك الناس يجيبو لنا شي من الغداء؟”.
توضأ كل منا في حمام. الجناح فيه حمامان. تأخرت كي يصلي فرفض رفضا باتا. نشر لي السجادة وقال أنت من يؤم الصلاة. قلت سيدي الرئيس لا يجوز فقال يجوز حت، تفضل.
بعد الصلاة تناولنا الغداء معا واستمر النقاش حتى بعد العصر. ثم قال لي إذا لم تكن مستعجلا وإذا لم يكن لديك مانع، أود أن تحضر معنا الاجتماعات غدا، فقط كمستمع. فوافقت. كنت أجلس وراء ظهره مباشرة، وكان يسألني بصوت خافت عن رأيي في هذا الرئيس أو ذاك. شكوت له قصور بلادي من الناحية الاعلامية فقال لي في هذه النقطة أوافقك بنسبة ألف في المائة.
في المساء جمعنا العشاء أنا وهو ومدير الديوان ووزير الخارجية. قال لي الرئيس : من دون لف ولا دوران، كلنا يعرف مدى حبك لهذا البلد. وأنا أقول لك إن بلدك يحتاجك. وأظن أنك ستكون أكثر فائدة على بلدك إذا خدمته بجانبي، بدل مهاجمته من كندا.
طلبت مهلة للتفكير. شهران بعد ذلك صدر مرسوم بتعييني مستشارا برئاسة الجمهورية مكلفا بالاعلام والاتصال، وهي وظيفة أبليت فيها بلاء حسنا. بعد ذلك قرر الرئيس تعييني سفيرا لبلادنا في اليونيسكو، وهي الوظيفة التي أشغل حاليا.
Épilogue
سليمان جول ديوب هو سفير السينغال حاليا لدى منظمة اليونيسكو، والنص مقتبس كثيرا من حياته. قناته على اليوتيوب كانت تدعى : خطوط العدو
Lignes ennemies
كتب عنه أحد المعارضين مقالا رائعا بالفرنسية. رابطه في التعليق الأول. سأحاول قدر المستطاع ترجمته وإن كان فقر مفرداتي بالعربية واسلوب الكاتب الباذخ بالفرنسية يشكلان أكبر عائق أمام هذا المشروع.
النهاية
من صفحة حسن لبات