صيانة المال العام أمانة ومسؤولية وطنية وأخلاقية ودينية / الشيخ باي ولد السالك
لعل من الأسباب التي جعلتني أكتب عن معضلة الفساد وضرورة محاربته استحضار تلك الجهود التي قامت بها الحكومة من أجل القضاء على هذه الظاهرة التي تعتبر من أخطر التحديات التي ظلت تواجهها الدولة الموريتانية منذ الاستقلال إلى يومنا هذا.
فبعد أن أعلنت اللجنة البرلمانية عن تقريرها حول الفساد لذي أحيل إلى القضاء لمحاسبة المشتبه بتورطهم في قضايا فساد في عهد الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، حيث قرر الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني إخراج الوزراء الذين وردت أسماؤهم في تقرير اللجنة البرلمانية من دائرة الحكومة، لكي يتفرغوا للرد على الاتهامات التي وجهت إليهم للدفع ببراءتهم أمام القضاء.
حينها كتب رئيس لجنة التحقيق النائب البرلماني حبيب ولد اجاي في رسالة الاستدعاء مخاطبا الرئيس السابق أنه “خلال جلسات الاستماع التي عقدتها اللجنة تم ذكركم بالاسم والصفة مباشرة في وقائع وأفعال يحتمل أن تشكل مساسا خطيرا بالدستور وبقوانين الجمهورية الإسلامية الموريتانية”.
كما أن قضية اختلاس مبالغ مالية من أحد صناديق العملة الصعبة وصلت قيمتها إلى 935 ألف يورو، بالإضافة إلى 558 ألف دولار، من البنك المركزي العام الماضي شكلت مؤشرا واضحا على وجود فساد مازال منتشرا في مؤسسات الدولة حتى بعد رحيل الرئيس السابق عن السلطة، الأمر الذي عزز من عزيمة الحكومة وإصرارها على محاربة وكر الفساد وإحالة كل من يثبت التحقيق ارتكابه لهذه الجرائم أو مساهمته أو مشاركته فيها للمثول أمام القضاء المختص لينال ما يستحقه من عقاب جزاء وفاقا.
وقد وافق البرلمان الموريتاني في يناير/كانون الثاني لعام 2020، على تشكيل لجنة للتحقيق في الملفات الاقتصادية التي لها علاقة بمصالح الشعب الموريتاني ومستقبل ثروته، وحسب تقرير أعدته الجزيرة نت 2020 جاء فيه أن صفقة حاويات “ميناء نواكشوط المستقل” منحت لشركة على صلة بصهر الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز لفترة تربو على ثلاثين سنة، مقابل استثمار يصل إلى 390 مليون دولار فقط” هذا بالإضافة إلى مليارات تبخرت وشركات أفلست في عهد الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز.
إن حماية النزاهة ومكافحة الفساد تستلزم برامج إصلاح شاملة تحظى بدعم سياسي قوي وتكتسب مضموناً استراتيجيا يقوم على تشخيص المشكلة ومعالجة اسبابها وتعاون الاجهزة الحكومية ومشاركة المجتمع ومؤسساته وإرساء المبادئ والقيم الأخلاقية للإدارة والمجتمع وتعزيزها والاستفادة من الخبرات الدولية.
وبما أن حماية النزاهة ومكافحة الفساد بجميع أشكاله من المبادئ الثابتة في الشريعة الإسلامية والانظمة الدولية فإن موريتانيا وهي تستمد انظمتها من مبادئ واحكام الشريعة الإسلامية حرصت كل الحرص على ضمان وتكريس مبدإ النزاهة والأمانة والتحذير من الفساد ومحاربة كل صوره واشكاله.
ومن هذا المنطلق حرصت حكومة معالي الوزير الأول السيد محمد ولد بلال على مشاركة المجتمع الدولي اهتمامه في محاربة الفساد من خلال حرصها على توقيع الاتفاقيات بهذا الشأن وحضور المؤتمرات والندوات في هذا الإطار وتعزيز التعاون الدولي.
وامتداداً لهذا الاهتمام فقد حضر وزير العدل السيد محمد محمود ولد عبد الله ولد بيه للدورة الاستثنائية للجمعية العامة للأمم المتحدة حول منع الفساد ومكافحته والذي انعقد في شهر يونيو من العام الماضي وأكد معالي الوزير في كلمته بالمناسبة “أن الفساد من أخطر التحديات التي تواجهها الدول عموما والدول النامية على وجه الخصوص لما يشكله من تهديد للديمقراطية وسيادة القانون وتقويض لجهود التنمية، الشيء الذي يجعل آثاره ومخاطره أشد فتكاً وتأثيراً من أي خلل آخر. “
وأضاف خلال كلمته “أن بلادنا عمدت مؤخرا إلى مراجعة الآليات الوطنية في اتجاه تحديثها وتطويرها بما يتلاءم مع متطلبات منع ومكافحة الفساد”، منبها إلى “أن الجهود المبذولة شملت وضع استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد، والانخراط في الجهود الدولية لمنع ومكافحة الفساد من خلال المصادقة على الاتفاقيات الدولية والاقليمية لمكافحة الفساد، وإدراج مقتضياتها في التشريع الوطني.”
نعم الحكومة جادة في محاربة الفساد بوضع استراتيجيات لمكافحته وقد جاءت القرارات التي اتخذتها الحكومة في اجتماع مجلس الوزراء 02/02/22 لتعطينا انطباعا بأنها فعلا جادة في هذا الموضوع بعد أن قررت إعفاء مدير ومساعده لإحدى القطاعات الهامة من مهامهما بتهمة الفساد.
الناطق الرسمي باسم الحكومة وزير الشباب والرياضة المختار ولد داهي خلال المؤتمر الصحفي الأسبوعي للحكومة أكد “أن موريتانيا دخلت مرحلة جديدة من محاربة الفساد بعد خطاب رئيس الجمهورية بمناسبة عيد الاستقلال الماضي”، مؤكدا في الوقت ذاته “أن محاربة الفساد لن يستثنى منها أحد، وأن كل من تثبت عليه مخالفة، سيطبق عليه القانون”.
ولفت الناطق الرسمي باسم الحكومة إلى أن “الإقالات التي تحدث في بعض القطاعات الحكومية تأتي عادة بعد تحقيق إداري يرصد بعض الاختلالات في عمل هذه القطاعات”، مشيرا إلى أن الإدانة بالفساد بصفة مباشرة من اختصاص القضاء”.
إن محاربة الفساد بأشكاله كافة، وقبل وقوعه، وإصلاح الأنظمة الإدارية والمالية، وتعزيز القيم المؤسسية والضوابط الأخلاقية في مؤسسات الدولة، وتجذير ممارسة حق الحصول على المعلومة، إضافة إلى تعزيز مبادئ الشفافية والعدالة والمسؤولية في اتخاذ القرار الإداري داخل المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني هي أمور ضرورية لن تتحقق إلا من خلال تفعيل دور أجهزة الرقابة والمساءلة وتكاملية عملها، وفقا لأفضل الممارسات والمعايير المهنية.
كل هذه الإجراءات التي قامت بها الحكومة لابد أن تؤتي أكلها وذلك بتظافر الجهود بين جميع أطياف ومكونات المجتمع المدني من أجل محاربة هذا الداء الفتاك.
ولعل تحديث “هيئة خاصة بمكافحة الفساد”ـ من أجل تقوية دور مؤسسات الرقابة وتكريس استقلالها وتفعيل توصياتها، والعمل على نشر قيم النزاهة والشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة ــ أمر في غاية الاستعجال، لأن المال العام أمانة ومسؤولية وطنية أخلاقية ودينية، والانتماء إلى الوطن يعني الحفاظ على مقدراته من الهدر والاستغلال، فعلى الحكومة أن تأخذ هذا الاقتراح على محمل الجد لكي نحارب أكبر عائق يواجه تقدم الدولة وتنميتها وهو الفساد.
ولابد هنا من التأكيد على مجموعة من المرتكزات التي ستشكل نهج عمل للهيئة الخاصة بمحاربة الفساد، من أهمها:
أولا: ضمان صيانة المال العام وموارد الدولة ووضع الضوابط التي تمنع أي هدر فيها.
ثانيا: تعزيز إجراءات الشفافية والمساءلة في القطاع العام فيما يتعلق بالموازنات والنفقات واللوازم الحكومية، بالإضافة إلى سن إطار للتعيينات في الوظائف العليا وصياغة معايير تقديم الخدمات وآلية معالجة الشكاوى والمظالم.
ثالثا: تمكين أجهزة الرقابة وتعزيز قدراتها المؤسسية لردع ومكافحة الفساد وفق اختصاصها.
رابعا: تعزيز مبادئ الحكم الرشيدة داخل القطاع العام والخاص ومنظمات المجتمع المدني ترسيخا لثقافة الشفافية والمساءلة والحرص على الصالح العام.
خامسا: تطوير الأطر التي تنظم العلاقة التشاركية بين القطاعين العام والخاص.