الملاكم الأسطورة محمد علي كلاي
في نهاية ديسمبر 1978 حضر الملاكم الأسطورة محمد علي كلاي لتعزية الشعب الجزائري في وفاة الزعيم هواري بومدين، ذلك ضمن وفد أمريكي رفيع، فغطّى حضوره على زعماء سياسيين في مقبرة العاليّة، ولم يبخل عند مروره ببعض أحياء الجزائر، بمبادلة من كانوا يُحيُّونة التحيّة.. بل وحتّى إلقاء السلام عليهم..
لم أكنْ بين هؤلاء، فقد شكّلت وفاة بومدين صدمةً للجزائريين آنذاك، وكان الجميعُ يتابعُ مشاهدَ الجنازة والتأبين عبر التلفزيون، حتّى أنّ الشوارع خلتْ من البشر..
لقد تجلّى عنادُ محمّد علي كلاي، الذي أسلم في 1964، في مواقفه التي يذكرها التاريخ، فهو الذي اختار الملاكمة ليؤدّب بعض الشبان الذين أرادوا سرقة درّاجته، وهو الذي ألقى بميداليته الذهبية التي أحرزها في أولمبياد روما 1960 في نهر أوهايو احتجاجا على العنصرية المستشرية في شوارع أمريكا.. وهو الذي كسَر شوكةَ الملاكمين الذين لا يُقهرون، سوني ليستون وبعده جو فرازييه وجورج فورمان.. وهو الذي قاومَ المرض، ليوقدَ شعلة ألعاب أتلانتا، ليرحل في 2016 بعد معاناة مع المرض، فيقف العالم كلّه رافعًا له قُبّعة الإحترام والعرفان.. ومعزيّا في فقده.
ارتبط اسم محمد علي بالإسلام، حيث قال “طلبتُ من اللهِ أنْ أكون غنياً فأعطاني الإسلام”، وارتبط أيضًا برفضه المشاركة في حرب الفيتنام، ورغم سجنه، ظل يردّد “لن أحاربَهم فهم لم يلقّبُوني بالزنجيّ”.
في عام 1991 فوجئتُ به يدخل بهو فندق سوفيتيل بالمدينة المنوّرة رفقة زوجته بولاندا وأحد أصدقائه الملاكمين الأمريكان.. لمْ أصدّق أنّ الرّجل الذي هزّ أمريكا والعالم يقف أمامي بلحمه وشحمه. كان يمشي بصعوبة، لكنّهُ يبادل النّاس التحيّة، ويبتسمُ لهم. تقدّمتُ منه، وسلّمتُ عليه، وقلتُ له “أنا من الجزائر”، فهزّ رأسه مبديًا سعادةً دون أن يخسرَ شيئا من مرحه ومداعباته.. فقد مازحني حين قدّمتُ إليه نفسي بحركاتِه التي عُرف بها في الحلبة، وكأنه يودّ أنْ يقول لي “أعرفُ الجزائر، وحضرتُ مراسم جنازة الراحل هواري بومدين..”. لم يقدر على التعبير بسبب مرض الباركنسون (الرّعّاش) الذي حرمهُ مبادلة الآخرين كلامًا جميلا ومشاكساتٍ لطيفة.. وهو المعروف بحكمته.. وشعرتُ لحظتها أنّه يودّ أنْ يقول لي، كما يقول دائمًا “إذا كنتَ لا تمتلك إجابةً جيّدة.. فالسّكوت من ذهب”. قلتُ لزوجته بانجليزيتي المدرسيّة “أنا صحفيٌّ جزائريّ ولا أعرف إنْ كان البطل قادرًا على أن يجيبني عن سؤالين أو ثلاثة، فتأسّفتْ قائلة “أنتَ ترى..” ونظرتْ إلى السماء “كانَ الله معنا”.
واستأذنتُ البطل الأسطوري في أخْذ صورة للذكرى، فرحّب بذلك، وأخذتُ مكانًا إلى جانبه، بينما أعدّتْ زوجته الكاميرا، وراحَ يُداعبني بقبضتهِ التي أسقط بها أبطالا تاريخيين كبارًا، وما أنْ ضَغَطتْ على الزرّ، حتّى أوقفهَا، وهو يشيرُ إلى ضوءِ الشّمس العاكس للصّورة، فأخذنا مكانًا مناسبًا، وكانتْ لي معهُ صورٌ للذكرى..
تمنّيتُ لحظتها لو أنّ محمّد علي كلاي، كان بمثل تألقهِ وحيويّته وإبهارهِ الذي استمرّ طويلا، فأحاوره.. لكن اكتفيتُ بصورة مع رجل قال ذات مرّة “إذا أردتَ أن تطير، فطرْ مثل الفراشة، وإذا أردتَ اللسع، فالسعْ مثل النّحلة”..
وبقدر انتصاره في الحلبة، كان يمتلك لسانا ناطقا بالحكمة، إذ لا يخلو مجلسٌ أو حوارٌ من حكمة تأتي هكذا من هذا الفتى الأسمر الذي يقول “إنّ الرجل الذي يرى العالم في الخمسين من عمره كما كان يراه في العشرين من عمره، أهدر ثلاثين سنه من حياته”، ويقول أيضا “إنّ خدمتك للآخرين هي الإيجارُ الذي تدفعه مقابل استضافتك في الأرض”، ومن خبرته الطويلة في الحلبات يقول “احذرْ لكمات منافسيك المغمورين، فإن اللكمات كالرصاصات الطائشة إنْ أصابت قتلتْ”.
هذا هو الرجل الذي، وإن ظلّ صامتًا عشرين عامًا جرّاء المرض، ودّع الدنيا وهو يُطلُّ على الثمانين بحكمة الذين صنعوا التاريخ، ولم تصنعهم الصدفة..
عز الدين ميهوبي