يوسف إدريس..حوار في طائرة..

يوسف إدريس..
حوار في طائرة..

كان أكثر الناس “رفضا” لأحقية نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب 1988. أعلنها صراحة أمام الملأ “أنا أولى منه..”.
في ديسمبر 1988، كان الصحفيون يطاردون يوسف إدريس من مكان إلى آخر طمعًا في حوار أو كلمة بينما كان ــ رحمه الله ــ يتمنّع ويرفضُ الإدلاء بأي تصريح في موضوع الجائزة وموقفه من نجيب محفوظ.. وكنتُ واحدا منهم. ومع هذا لم أفقد الأمل في محاورته، وكنتُ أتحيّنُ الفرصة فقط وهذا يتطلّبُ سيناريو محبكًا بدقّة، وبعيدًا عن أعين النّاس والفضوليين، وخاصّة الصحفيين.
اتصلتُ بمرافق وفدنا الجزائري، وهو مخرج سينمائي عراقي، واستفسرته عن تاريخ عودة يوسف إدريس إلى مصر. بعد ربع ساعة جاءني بالخبر اليقين، فسألته “هل يمكنني أن أغيّر بطاقة سفري من رحلة بغداد- باريس- الجزائر إلى بغداد – القاهرة –الجزائر يوم الثلاثاء على العاشرة ليلا”، فانفجر ضاحكًا، بعد أن فهِم قصدي، وقال لي بلهجة عراقيّة “ماكو مشكل عيني.”.
وجدتُ نفسي، لوحدي، مع يوسف إدريس في القاعة الشرفية بمطار بغداد الدولي، فاقتربتُ منه على استحياء، وسلمتُ عليه ،ثم قدمت نفسي له: “أنا صحفي جزائري” فردّ “أهلاً وسهلاً بالجزائر”. سكتُّ قليلا، ثم قلتُ له “لقد احتلتُ على زملائي لأكون رفيقًا لك في رحلتك.. طَمعًا في إجراء حوار معك لجريدة الشعب الجزائرية..» فابتسم وقال لي: “ومن قال لك إنني سأقبل بإجراء حوار معك؟..”، فصمتتُ ثم قلت له: “حلمٌ وأردتُ تحقيقه..”، فابتسم ثانية وقال لي: «ما دمتَ صادقا فيما تقول، ولأنّك من أرض الثوار، سيكون لقاؤنا في الطائرة.”. شعرتُ بسعادة كبيرة.
في القاعة، وقبل أن نصعد الطائرة، جاءَ أحدُ المكلفين بأمن المطار وأخبرنا بأدبٍ كبير أنّ هناك أمورًا يُمنع نقلها على متنِ الطائرات، كالولاّعات والبطاريات، ففــزعتُ من مكاني، ثم تمالكتُ نفسي لأنني لن أجري الحوار دون بطاريات.. ولا أعتقد أنكم رأيتم جهاز تسجيل يشتغل بالماء (..)وبعد أنْ كان تفكيري منصبًّا على إقناع يوسف إدريس بالحوار، صار كل همّي أن أجد طريقة لتمرير البطاريات دون أن يُكتشف أمري (..) فقلتُ في نفسي هل أضعهما في فمي عند الصعود (!)، فانتبهتُ إلى أنّ المواد السامّة قد تُنهي حياتي قبل أن أبدأ الحوار (لا تصدّقوا أنني سأفعل ذلك!) ثم قلتُ ماذا لو تواطأتُ مع أحد أعوان أمن المطار أو المضيفين، وانتبهتُ أيضا إلى أنني في بغداد. توكلتُ على الله ووضعتُ بطاريّة في جورب القدم اليمنى وأخرى في جارتها.. ورحتُ أقرأ المعوّذتين وما تيسّر من أدعية سمعتُ جدتي تردّدها عند الشدائد والملمّات.. وأثناء الصعود إلى الطائرة، كنتُ أمشي وكأنّ الأمر عاديّ، حتى لا ينتبه إليّ أحد، أو يشعر بقلقي أصحاب العيون الحادة.. ولم يكن هناك تفتيشٌ دقيق، ربّما لأنّنا مررنا عبر القاعة الشرفيّة.
جلستُ إلى جانب الدكتور يوسف إدريس، وتنهدتُ تنهيدة رجل عائد من حرب الهند الصينية، وانتظرتُ لحظة الإقلاع لأسحبَ البطاريتين من جواربي، بينما كان يوسف إدريس ينظر إليّ ويضحك، ثم قال لي: “أمامنا ساعتان ونصف سـلْ ما شئت..”، وبدأنا الحوار من ذكرياته مع الثورة الجزائرية، إلى أن وصلنا مسألة جائزة نوبل، وكيف حُرم منها، وكان موعودًا بها، إذْ اشتغلتْ مؤسسة “بروتا” للترجمة التي تشرف عليها الباحثة الفلسطينيّة سلمى خضراء الجيّوسي على نقل أعماله الأدبية إلى اللغات الإسكندنافية، التي تعدّ من البوابات الأساسية لنيل الجائزة، ودارت حولها نقاشات جمّة، أهّلته لأن يكون المرشّح الأول لنوبل التي لم يسبق أن نالها العرب قبل 1988، والحقيقة أنّ الدكتورة سلمى، أخبرتني بذلك في حوارٍ أجريته معها..
كان يوسف،بكبريائه المعهودة، يتحدث بهدوء حينًا وبعصبيّة أحيانا أخرى، وبكثير من الحكمة عندما يُدرك أنّ طلقة نوبل خرجت ولن تعود..
فرحتُ كثيرًا بالحوار الذي امتدّ إلى قضايا مختلفة. وما أن أنهيتُ أسئلتي، قال لي رحمه الله “كده أنتَ مبسوط”. وعندما وصلنا إلى مطار القاهرة، فاجأت الدكتور يوسف إدريس بأنني لا أملك تأشيرة دخول الأراضي المصرية، وهذا سيعرّضني إلى متاعب كبيرة، ورجوتُه أن يتدخل، فقال لي: “سأحاول”.. غير أنّ المفاجأة كانت عندما قدمتُ جواز سفري لشرطة الحدود بمطار القاهرة الدّولي نظر إليّ ضابط الشرطة وسألني عن التأشيرة، فأجبته بأنني لم أتمكن من تحصيلها في بغداد لضيق الوقت،فقال “ما فيش دخول”، لم أحاول معه لأنني كنتُ أعرف النتيجة، وهي البقاء في المطار وتسفيري إلى الجزائر غدًا.. ثم ابتسم وقال لي “يمكنك أن تدخل، لأن التأشيرة بين مصر والجزائر أزيلت اليوم، وأنت أوّل من يدخل دون تأشيرة” فعلق يوسف إدريس”يا ابني د انتَ محظوظ..”، فعـقـبتُ بسرعة بداهة: “لكنني لستُ محفوظ!”، ثم ودّعتهُ وأنا أتساءل كيف سيكون الأمر لو انكشفَ أمرُ البطاريات؟..

عزالدين ميهوبي

زر الذهاب إلى الأعلى