لنعد قليلا إلى الوراء..
أواخر 2018 بعد فشل الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز في فرض الشيخ ولد بايه كمرشح للرئاسيات، اتجهت الأنظار صوب قائد الأركان. بعد تعيين هذا الأخير وزيرا للدفاع بدأت الرؤية تتضح لمناصري الرئيس عزيز، ولكن أمورا أخرى كانت تدور في الخفاء.
ولكن، لنعد قليلا إلى الوراء..
بدأت المشاكل تطفو فوق السطح عند مهرجان فاتح مارس 2019 الذي رفض فيه المرشح بشكل قاطع حضور حزب الدولة ولافتاته، ما مكنه من استقطاب فئات عريضة من الشباب الموريتاني بما فيها المعارضة وحتى أقطاب من المجتمع المدني لم تكن مهتمة بالسياسة أصلا.
ألقى المرشح كلمة أثنى فيها على جميع الرؤساء السابقين بما فيهم عزيز، ثم بدأ خطابه الفعلي قائلا “أما أنا…” وهي ديباجة حملت شحنة اختلاف في النهج ورسالة واضحة تلقاها الرئيس عزيز، وهو يشاهد الخطاب على شاشة تلفزيون الساحل، فدخل بعد المهرجان مباشرة في اجتماع مغلق مع أبرز معاونيه : ثلاثة وزراء معروفون بقربهم منه (رجلان وسيدة) إضافة إلى مستشار في الرئاسة ورجل أعمال وجميعهم أعضاء بارزون في طاقم حملة المرشح ولد الشيخ الغزواني.
كانت التعليمات واضحة وتتلخص في ثلاث نقاط :
– العمل على سد الباب في وجه القادمين من المعارضة، عن طريق عدم ولوج أي عنصر منهم إلى لجان اللوجيستيك والموارد المالية.
– التنسيق من أجل ضمان حلول ولد الغزواني في المرتبة الأولى ولكن تحت 50%.
– متابعة أربعة أشخاص أولا بأول ورفع تقارير عن تحركاتهم، مباشرة إلى الرئيس عزيز وهم : وزير الدفاع الأسبق محمد محمود ولد محمد الأمين، قائد قوات G5 سابقا حننه ولد سيد، المستشار برئاسة الجمهورية محمد سالم ولد مرزوك بالإضافة إلى أحد إخوة المرشح والذي كان يقوم بحملة موازية انطلاقا من مدينة نواذيبو.
ثم بدأت الحملة…
بعد عودته من جولة قادته إلى جميع عواصم الولايات قرر المرشح زيارة منسقيات نواكشوط الثلاث والاجتماع بالطواقم القاعدية. بدات الجولة بعد صلاة العشاء في دار الشباب الجديدة وانتهت مع صلاة الفجر في مقر منسقية الشباب، وكان المشكل الوحيد لدى الجميع هو انعدام الموارد، وهو ما شكل مفاجأة للمرشح خصوصا أن عدة رجال أعمال ابدو استعدادهم لتمويل الحملة بل إن بعضهم مولها فعليا. في الصباح قال لنا المرشح : “أطالبكم بطي صفحة الخلافات والعمل جنبا إلى جنب من أجل إنجاح الحملة. لا تتكلمو عن ما سبق. انظرو إلى الأمام، إذا صادفتكم صعوبات حاولو التغلب عليها وإذا لم تستطيعو فبابي مفتوح. تواصلو مع محمد أحمد أو محمد (يعني الوزير السابق محمد أحمد ولد محمد الامين، مدير الديوان إبان الحملة وبعدها، أو العقيد محمد ولد انداري، الذي أخذ عطلة من الجيش إبان الحملة وكان سكرتير المرشح الخاص).
حكى لي أحد كبار رجال الأعمال أنه أثناء لقاءه مع المرشح أعرب له عن عزمه على التبرع بمليار أوقية للحملة، فعلم بها عزيز فهاتف المرشح يطلب المليار، وكم كانت دهشة رجل الأعمال المذكور لدى تلقيه مكالمة هاتفية من المرشح يطلب منه تحويل المبلغ المذكور إلى حساب عزيز الشخصي في بنك زين العابدين !
ليلة إعلان النتائج كان من المقرر اجتماع طواقم الحملة في المقر الرئيسي وانتظار النتائج، ولكن في اللحظة الأخيرة فرضت كريمة الرئيس عزيز إقامة حفل عشاء باذخ في قصر المؤتمرات بإشراف إحدى شركاتها، وحرصت أن تبعد منه جميع الشباب القادمين من المعارضة حتى أولئك الذين استطاعو الحصول على بطاقات دعوة. أنا مثلا إبان الحملة كنت مسؤولا عن العلاقات مع الصحافة الأجنبية الفرانكوفونية وقدمت صحبة صحفيين من فرنسا والسنغال ومالي والمغرب… عند الباب ابلغوني ان الصحافة تدخل ولكن هناك تعليمات عليا بعدم السماح لي شخصيا بالدخول، فرفض اصدقائي الدخول، فقلت لهم “هذا سوء تفاهم بسيط، ادخلو كي تتمكنو من وضح الكاميرات في مكان استراتيجي. سأهاتف شخصا يسوي الموضوع وسأدخل بعدكم مباشرة”. شخصيا لا أحب المساومة لذا توجهت إلى السيارة وفي الطريق صادفت منسق العمليات الانتخابية الناني ولد شروقه فقال لي إلى أين ؟ شرحت له الموضوع فقال “إذا لم تدخل انت فمن يستحق الدخول؟” ثم اصطحبني معه ولم يعترض طريقنا أحد.
ليلة الدراما…
بدأت الأرقام تصل تباعا ومع ظهور النتائج الأولية على الشاشة بدى الارتياح واضحا على قسمات عزيز : غزواني 47%، بوبكر 18% وبيرام في المرتبة الثالثة بفارق طفيف…
يبدو أن الخطة تسير على ما يرام… ولكن من المستحيل قراءة قسمات غزواني، الذي غادر مقعده مرة واحدة فبادر عزيز بالإشارة إلى أحد معاونيه الذي تبعه ظنا منه أنه سيصدر تعليمات هاتفية، ولكن المرشح كان واقفا بهدوء وراء الخيام، يدخن سيجارة رفقة أحد الجنود المكلفين بحراسة قصر المؤتمرات.
عاد المرشح للجلوس ليجد رفيقه مكفهرا، والسبب كان واضحا على الشاشة : لقد وصلت نتائج نواكشوط ونواذيبو وتعدى غزواني نسبة 52% قليلا. بدى التوتر واضحا على وجه عزيز فقام غزواني الذي يعرفه حق المعرفة بخطوة أظنها استباقية، أخذ الميكروفون وقال إن النتائج الأولية تظهر فوزنا في الشوط الأول وفي انتظار النتائج النهائية فهو يهنئنا كطاقم على هذه النتيجة ويهنئ المرشحين الآخرين على حملاتهم المميزة وكذا الشعب الموريتاني ككل. ثم وضع الميكروفون وتوجه صوب الباب معلنا انتهاء الحفل.
كانت الساعة تشير إلى الرابعة والنصف، مباشرة ذهبت إلى المطار ثم إلى فرنسا حيث كنا، وأنا ومجموعة من الشباب الموريتاني، على موعد مع الرئيس ماكرون. ولكن تلك قصة أخرى وإن كانت الإنتخابات في موريتانيا طغت على أجواء اللقاء.
رجع عزيز مباشرة إلى القصر لتبدأ الخطة البديلة : تسريبات محاولة اغتيال بيرام كي يخرج شباب الحراطين إلى الشارع، اعتقال صمبا تيام أحد قادة حركة فلام التاريخيين، إعلان حالة الطوارئ، قطع الإنترنت… وهي خطة باءت بالفشل لسببين :
– أولا برودة أعصاب غزواني الذي تفادى الوقوع في الفخ، حيث كان عزيز يتمنى أن يرضخ لضغط الشارع ويقول إنه ضد عمليات القمع ويطالب بإطلاق سراح المعتقلين وإرجاع الإنترنت، وهو مالم يقم به غزواني لأنه كان يدرك جيدا أن أوراق عزيز لاتزال أكثر بكثير من أوراقه. وان الهيستيريا التي انتابت الرئيس عزيز قد تقود البلاد إلى ما لا تحمد عقباه لا قدر الله.
– ثانيا موقف بيرام حيث استطاع قراءة الأحداث بسرعة فائقة، فاعترف بالنتائج النهائية التي حل فيها في المرتبة الثانية، وألقى خطابا دعى فيه إلى التهدئة، وتبرأ من المتظاهرين الذين يقومون بإتلاف ممتلكات المواطنين من سيارات وحوانيت..
على ذكر الإنترنت، في تلك الفترة كنت بحكم عملي في شركة سامسونغ بغرب أفريقيا أتواصل يوميا مع مهندسي موريتل وحكى لي أحدهم أن الأمر جاء من الرئاسة بتعليق جميع الخطوط حتى إشعار آخر. دقائق بعد ذلك صدرت أوامر جديدة بأن يكونو على أهبة الاستعداد لاستثناء خمسة أرقام. قال لي “كنا ننتظر ان تتكون اللائحة من الرئيس عزيز طبعا، مع كبار معاونيه : وزير الداخلية، وزير العدل، قائد الأركان.. إلخ. ولكن الصدمة كانت كبيرة لدى وصول اللائحة : الرئيس عزيز، تكيبر، أسماء، بدر، ومحمد ول مصبوع” !
يتواصل..
حسن لبات