تحليل قصيدة مئذنة البوح / الداه ولد محمد الأمين الولي

مقال تحليلي :

لأن الخروج من الدم فوق الأدلة

فوق التخيل والمستطاع

لأن الرياح التي لا يسا فحها الظل تذروا التماعي

تسلقت مئذنة البوح صحت وصحت

انا سارق النار هذي ملامح وجهي وهذا قناعي

وتلك ظلالي علي الماء تمتد شبابة

ومنتهش للصبابات بين المحيط وبين الخليج شراعي

وإن دلني جسد في الغياب إلي سدرة الوطن المشتهي

وحملني الموج من ذكريات الربيع وأنفاسه قصصا عن كليب وعن وائل

يوم باعت لنا منشم عطرها وانتفضنا قراعا وراء قراعي

فلا كان هذا السلام لأدفع من ماء وجهي

دماء أخي و مخرز أمي واعتي قلاعي

أنا سارق النار يرقبني حارس النار

يقذفني بالرجوم إذا ما مددت لها ذراعي

أنا سارق النار يقلقني وتر فاحش يرتوي من سراب ألهوي وارتياب الشعاع

أنا سارق النار ناري تفوق النبوءات ناري انبجاس التوله

ناري هي الأمل الذي انتظرته ألوف الجياع

فيا أبتا للديار وتاريخها للجواري ونخاسها

لكل الموزع بين الغزاة وجلاسها قرع أجراسها

ومن أذنوا للصلاة لأمر مشاع

لكل نمير مواكبها ومواسمها ولي انطباعي

خطاي إلي القدس موحشة وسمائي علي هامتي سقطت

وهند التي تتسلل داخل خارطة الشوق باتت تصافح لون قميص النزاع

تلوح لي وجميع المراضع باتت علي محرمة

فمتى يقذف اليم تابوت هذا الضياع

مثلت الدعوة لتجديد الأدب وتطويره بداية لظهور تيارات فكرية متباينة المشارب والرؤى اجتمعت حول التعبير عن العواطف والمشاعر فتبتلت في محراب ذات الشاعر وتنقلت بين آلامه وآماله ولم تغب حركة الشعر الحر عن التغيير والتجديد فقد عرفت قفزة تجاوزت المفاهيم السائدة فمست الأشكال والمضامين فكسرت بنية القصيدة القديمة وفتحتها علي آفاق من الإبداع والابتكار ومن رموز هذا التيار نازك الملائكة وصلاح عبد الصبور واحمدو ولد عبد القادر وفاضل أمين وبدر شاكر السياب ومحمد ولد الطالب صاحب هذا النص.

فما هي مضامينه؟ وما حقوله الدلالية؟ وكيف جاء المعجم الذي جسدها؟ وما هي خصائص النص الفنية وكيف مثلت مذهب صاحبه الشعري؟

يشكل التعليل الملازم للتأكيد حالة قلقة مليئة بالحيرة والضياع والانكسار مما يوحي لقارئ النص بعالم مغلق تتقطع فيه الآمال وتتأزم فيتحول إلي حالة بؤس تذروا الرياح فيها ألق الحياة وجمالها فيتعزز الاستسلام لواقع بات الخروج منه ( فوق الأدلة فوق التخيل والمستطاع) وقد أدي التلازم بين المعلل والمؤكد في بداية النص إلي رسم بعد مليء بالألم والضياع والحيرة وتأسيس توقع يبشر بالخروج من هذا الواقع والانتصار عليه

فحالة الضعف والقهر والضياع دفعت الشاعر الي التمرد علي هذا الواقع (تسلقت مئذنة البوح صحت وصحت أنا سارق النار) وفي هذا التحول المفاجئ يستعين الشاعر في التعبير عن مضمونه الشعري باستخدام الرمز والأسطورة وقد ظل حضورهما سمة بارزة في بناء القصيدة الجديدة وخاصية مميزة في الربط بين النص ومذهب صاحبه الشعري

يتسلق الشاعر مئذنة البوح وهو يستلهم قوته ونصره من يوم مشهود ورمز معهود فقد كان يوم إعلان الأذان دون خوف أو وجل يوما انتصر فيه الحق علي الباطل وخرج المسلمون من واقع الذل والهوان

وإذا كان الشاعر قد استعان في التعبير عن مضمونه باستدعائه الرموز الإسلامية فانه استخدم الأسطورة اليونانية متقمصا دور برمثيوس (سارق النار)

ولئن كان سارق النار إنما قام بفعله لإنقاذ البشرية وسعادتها فإن محمد ولد الطالب سعي لخلق مساحة من الأمل تبشر بالخروج من هذا الواقع الحزين وإذا كان الشاعر استعار صفة السارق فأنه لم يختف بل أعلن عن ذاته مبينا ملامحه وراسما حدوده (هذي ملامح وجهي وهذه قناعي

وتلك ظلالي علي الماء تمتد شبابة….) ويتحرك الشاعر عبر لحظة شعرية يتذكر فيها أيام الشؤم التي عرفتها الأمة في تاريخها وصراع الإخوة

(وحملني الموج من ذكريات الربيع وأنفاسه قصصا عن كليب وعن وائل)

يتذكر كل ذالك وهو يحلم بوطنه (المشتهي) الذي سيتم استرجاعه(قراعا وراء قراع. ويتحول النص من تلك اللحظة إلي واقعنا اليوم رافضا له و متمردا عليه (فلا كان هذا السلام …) الذي تتنازل فيه الأمة عن شرفها وكرامتها واعتا قلاعها وتستعيد البشري حضورها في النص من جديد (انا سارق النار) الا أن حضورها يعترضه الظلم الذي يتحكم ليله وترتوي اوتاره من سراب الهوي وارتياب الشعاع

وتظل فقرات النص تتحدث عن الألم والضياع والنصر والخلاص فها هو يتحول إلي البشري من جديد فيتضح مضمونه وتتجلي رموزه ( ناري طفوق النبوءات) (ناري انبجاس التوله) (ناري هي الأمل الذي انتظرته ألوف الجياع) ومع اتساع مساحة الأمل وتكشفها في هذه الفقرة تطوف بالشاعر مجموعة من الأحاسيس يتداخل فيها الماضي بحاضر مليء بالألم والحسرة فالديار والتاريخ ضمن الموزع بين الغزاة وجلاسها فينسد الأفق ويتحكم الهوان والآسي فيبدوا الشاعر مستغيثا بماضيه (فيا أبتا للديار وتاريخها للجواري ونخاسها.. لكل الموزع بين الغزاة وجلاسها…)

وفي هذا المقام تتراجع البشري بطريقة مفاجئة فتعم الخيبة ويتملك الخوف… (خطاي الي القدس موحشة وسمائي علي هامتي سقطت) فينقضي نهار الشوق ويلتحف ليله لون قميص النزاع (وهند التي تتسلل داخل خارطة الشوق باتت تصافح لون قميص النزاع) فيدخل النص لحظة شعرية حزينة نري فيها (مآذن بغداد صامتة) فيمر النص عبر حيرة تائهة ذقنا ألمها وتجرعنا مرها وحسرتها لحظة يمر فيها نزيف جراح الأمة من شرايين مآذن بغداد غير أن المآذن تحدثت هنا عن قصتنا الوجودية التي يمثل فيها رفض المراضع سر العناية الإلهية التي يستمد منها الشاعر انبعاثه وتجدده (تلوح لي وجميع المراضع باتت علي محرمة) فتبدوا الذات التي ظلت تمثل حسا ناظما للنص في بعدي الضياع والأمل قلقة متوترة يلامسها إحساس عميق بالنصر فيتحول صوت مآذن بغداد صارخا ويوحي وداعها بالنصر فتتجلي خيبة آل فرعون ويمثل حضور التابوت بعدا عدميا تضيع فيه مراكب الأمل فتتحرك ذات الشاعر متلهفة إلي احساسها بالنصر (فمتي يقذف اليم تاريخ هذا الضياع) ونستنتج مما سبق ان النص تكون من حقلين هما:

*حقل الضياع والحيرة ومن معجمه: فوق الأدلة. فوق التخيل والمستطاع. تذرو التماع. موحشة. يقلقني. فاحش. علي هامتي سقطت …

*حقل الأمل ومن معجمه: مئذنة البوح. سارق النار. طفوق النبوءات. هي الأمل…

وقد سادت في النص صور طغى عليها استخدام الرموز الدينية والتاريخية والأسطورية: مئذنة البوح. سارق النار. طفوق النبوءات. قميص النزاع. مآذن بغداد. وأما الإيقاع الخارجي فقد حل فيه السطر محل الشطر ولم تعد للروي و القافية القدسية التي منحت لهما في مفهوم المرزوقي وإن حافظ النص علي هذا المفهوم من خلال حضور بحر المتقارب وقد ساد التكرار في الإيقاع الداخلي: لأن الخروج. لأن الرياح. فوق الأدلة. فوق التخيل. صحت وصحت. ناري ناري قراعي قراعا. ومن التكرار في الحروف صامتة صارخ صمتها …. القدس سمائي سقطت. فأعطي الإشتراك في الصفة بين السين والصاد نغمة كان لها دورها في الإيقاع الداخلي وقد ساهم تجانس التكرار في منح النص صوتا أعطي لإيقاعه الخارجي بعدا موسيقيا أضفي عليه حلة من الألق والجمال ونستخلص مما سبق أن إيقاع النص واستخدامه للرمز والأسطورة وقدرة الشاعر علي استحضار واقع الأمة من خلال ذات تسمو علي الفرد وتلامس واقع الأمة وتعيش إشكالياتها نلاحظ ان ذالك كله مثل علاقة قوية لهذا النص بمذهب صاحبه الشعري.

الداه ولد محمد الامين الولي

زر الذهاب إلى الأعلى