في الذاكرة /محمد فال بلال

في الذاكرة
28 نوفمبر 1960 في روصو
وصلتُ مدينة روصو في اكتوبر 1960 على متْن سفينة “ابنُ المقداد”…سفينة في غاية الجمال و الأناقة و الفخامة. سفينةٌ ضخمة من 3 أو 4 طوابق ..مُجهّزة لنقل البضائع والركاب معًا..و استغرق سفرنا 3 ليالي من كيهيدي الى روصو…و للعلم ، هناك سفنٌ أخرى مثل “كرمور” و “سولاك” تمارس النقل على نفس الخط النهري ، ولكنّ “ابن المقداد” هي الأفضل والأجمل والأكمل …كانت تنبض بالحياة وتُوفر للركاب كلّ وسائل الراحة والاسترخاء …كنّا نتجول بداخلها. ولا تخطئ العين أشياء جميلة: براد على النار – شاي يصب – سكر يكسر – موائد وفواكه – ألعاب ترفيهية (السّيگ، اكرور، ظامة، مرياص، إلخ..).
وجدتُ روصو…مدينة كبيرة جدا و جميلة حقا…لا مقارنة بينها وبين القرى التي مررتُ بها من قبل (ألاك ، بوكي ، كيهيدي ، امبود ، سيلبابي) مع أن النمط المعماري المُعتمد على طول النهر متشابهٌ جدا… مباني من الاسمنت المُسلح مُسقفة بصحائف حمراء، ربما للتأقلم مع ظروف الطقس و المناخ في “شمامه” حيثُ الحرارة، و الرطوبة، و الأمطار…و فور وصولنا روصو ، ركبتُ “حافلة ليسه” (“ت45 ) مع السائق “سيدبي” محملة بالتلاميذ… يلعبون و يمرحون في جو من الحماس و الحيوية و الصخب أعطاني فكرة عن المدرسة…لم تأخذ الرحلة سوى 10د. لأن الثانوية لا تبعد عن المدينة إلاّ 7 كم تقريبا…
10 دقائق فقط، و وطأتْ قدماي أرض ”ليسه اكزافيي كبولاني”! كان الجو معتدلا و رطبا. و العمارات شاهقة (معظمها من طابقين)، و منسجمة مع بعضها البعض، بيضاء و نظيفة. و الطرق معبدة، و الماء في الحنفيات، و شبكات الصرف الصحّي موجودة، و الكهرباء لا تنقطع…و الفصول مجهزة بأحسن المقاعد و الطاولات، و المهجع يوفر أجمل الأسِرة والصناديق والناموسيات، والمطعم جميل، والمبنى الإداري نظيف، والمستوصف بسعة 5 أسِرة، ومساكن الأساتذة، وحديقة المرحوم سيدي المختار انچاي، وملاعب رياضية متعددة: كرة القدم، وكرة السلة، والكرة الطائرة، و ألعاب القوى بجميع تخصصاتها، وقاعة سينما، وقاعة للأنشطة الثقافية: ندوات، ومحاضرات، ومسرح، إلخ..
وصلنا المدرسة وشرعنا فورا في تحضير الاحتفال بعيد الاستقلال بحماس و حيوية و إخلاص…كانت قيادة الأمور بيد فارس و مهندس ذلك الاحتفال السيد محمد المصطفى ولد الشيخ محمدو (وهو من أعيان مدينة ألاك ومن أبرز كوادر لبراكنه والوطن عموما) حفظه الله. قام بتشكيل فريق من 12 تلميذ؛ وكان لي الشرف أنْ أكون عُضوا في ذلك الفريق …وبعد أسبوعين من التدريب المكثّف ، حضرنا يوم 28 نوفمبر 1960 على الساعة 8 صباحا في زيّ موحّد وأنيق، وأخذنا مكاننا أمام مبنى إدارة الثانوية الوحيدة في البلاد (كوليج كبولانِ) ومن حولنا صفوف التلاميذ…بدأ رفع العلم الوطني في جو منقطع النظير…ثم أعطانا المصطفى اشارة البدء …فقام فريقنا بتلحين نشيدين . الأول بعنوان :
“تعالوا حان الوفاء
شباب موريتانيا”
ونسيتُ كلماته ، مع الأسف.
والثاني:
“إلى العلا إلى العلا
إلى العلا بنى الوطن
إلى العلا كل فتاة و فتى
إلى العلا فى كل جيل و زمن
فلن يموت مجدنا، كلا، و لن”.
ثُمّ صعد المصطفى على منصة كبيرة أعدّت للمناسبة، و ألقى كلمته وسط تصفيق حار و هتافات جموع الحاضرين…كان خطابه جميلا و أحفظ حتى الآن فقرات منه … ربما لشدّة التأثر باللحظة… و بعد انتهاء الحفل ، غادرنا مُسرعين باتجاه المدينة.
كانت الأجواء احتفالية.. ازدانت الشوارع بأعلام وطنية خضراء يتوسطها نجم وهلال بلون ذهبي. وخرجت المدينة عن بكرة أبيها احتفاء بذلك اليوم الأغر. واصطف السكان على جنبات ملعب كرة القدم الذي أعدّ بالمناسبة ليكون ملعبا أولومبيا كاملا. و فمُ الناس تبسم وفرح وغناء. مرّ من أمامنا موكب العمدة “صمب ولد اسنيح” (رحمه الله) محمول على عربة يجرها 4 خيول بيضاء “أصيلة”. لن أنسى مرور ذلك الفارس العظيم . كان طويل القامة (دون 2 ميتر بقليل)، أنيقًا، يرتدي “دراعة” و”فوقيّة” بيضاء ويلوح بيديه للحشود وهو شامخ كالجبل. ارتفعت الهتافات من كل جهة ومكان: SAW ، SAW ، SAW في وسط الزغاريد وشد الطبول. وصل العمدة منصة الشرف المطلة على الملعب وأخذ مكانه بوقار و احترام. وبعده بدقائق وصل “الحاكم” على سيارة “جيب” عسكرية. وكان يرتدي قميصًا من “كاكِي” قصير الأكمام وسروالًا أسود طويلا.. أدّت له فرقة من الجيش الوطني تحية الشرف قبل أن يأخذ مكانه معلنا عن انطلاق نهائيات ما يشبه ألعاب أولمبية محلية: سباق الدراجات الهوائية، سباق الخيول، سباق السرعة (100 و 200 ميتر )، سباق المسافات المتوسطة (800 و1500 و 3000 ميتر)، سباق الماراثون (5000 ميتر)، و رمي القرص، رمي الرمح، الوثب العالي، الوثب الطويل ، الوثب الثلاثي. دامت هذا المباريات يومين واختتمت بنهائي كرة القدم بين فريق الثانوية وفريق “الصحوَة”.. وكان الفريقان قد انتصرا على”المستقبل” و “الطموح” .. وأذكر أن فوز الثانوية بالبطولة تسبب في احتكاكات ومناوشات خفيفة بين التلاميذ وأنصار فريق المدينة.
وفي ختام الألعاب حصد “مركز التدريب العسكري” أغلبية الجوائز. وحلت “الثانوية” في الدرجة الثانية. ومن بين التلاميذ الفائزين في تخصصهم: صديقي”السالم ولد اممُّو” في 100 ميتر و انينغ حمادي في ال 200 ميتر، و محمد يحظيه ولد الفيلالي في 1500 و 3000 ميتر، و فاز “محمد ولد اعبيد” بالجائزة الثانية في ماراثون 5000 ميتر، و”محمد ولد زيبلي” في رمي القرص، و”ديالو دابو” في ألعاب القضبان المتوازية. وهو ابن الرائد “ديالو” قائد مركز التكوين العسكري.
هكذا كانت روصو وأهلها ومركزها العسكري ومدرستها الثانوية أيام الاستقلال 1960.
ولا حول ولا قوة إلا بالله .

زر الذهاب إلى الأعلى