هل هناك جهات في الأغلبية تريد افشال التشاور؟
من المقلق جدا أنه في الوقت الذي قررت فيه المعارضة ـ وبكل أطيافها ـ أن تشارك في الجلسات التحضيرية للتشاور الوطني الشامل أو للحوار الوطني الشامل بلغة أخرى فوجئت هذه المعارضة برسالتين غير مطمئنتين في توقيتهما وفي مضامينهما.
الرسالة الأولى : تمثلت هذه الرسالة في مقال نشره الأمين العام المساعد للحكومة على حسابه في الفيسبوك تحت عنوان “لا للتهدئة” وصف فيه المعارضة بأنها مرهقة ومفككة وضعيفة..المقال تم افتتاحه بالفقرة التالية: “كان قرار تهدئة الساحة السياسية قرارا حكيما هدف إلى إرساء تعامل جديد مع معارضة مرهقة. استقبل فخامة الرئيس السيد محمد ولد الشيخ الغزواني رموز المعارضة في القصر الرمادي في غياب وسائل الإعلام، كما يستقبل الوجهاء وكبار معاونيه، وفي ذلك رسالة لم ينتبه لها غالبا…”
في هذه الفقرة يصف الأمين العام المساعد للحكومة استقبالات فخامة رئيس الجمهورية لقادة “المعارضة المرهقة” بأنها لا تختلف عن استقبال الوجهاء وكبار المعاونين، ويرى الأمين العام المساعد للحكومة بأن في ذلك رسالة لم يُنتبه لها غالبا، فأي رسالة يقصد الأمين العام المساعد للحكومة؟
وفي فقرة أخرى من مقال “لا للتهدئة” يقول الأمين العام المساعد للحكومة : “لكن المعارضة استثمرت التهدئة لتأخذ إجازة تريدها معوضة! فاختفى زعماؤها من المشهد السياسي إلا في مناسبات تدعوهم لها الأغلبية، ودخل النشطاء الذين كانوا يملؤون الفضاء ضجيجا، في سبات عميق! وضعوا أنفسهم على الصامت دون “اهتزاز” للأحداث الوطنية والدولية! وسوقوا أنهم يفعلون ذلك من أجلنا، والواقع أننا أول المتضررين، ولعلهم يدركون ذلك.”
من الواضح جدا أن سيادة الأمين العام المساعد للحكومة لا تعجبه التهدئة، وأنه أصبح يحن إلى زمن الصدام والتجاذبات السياسية العنيفة، ففي مثل تلك الأجواء قد تروج كل المنتجات والسلع التي تأتي من سلة “لا للتهدئة”.
يواصل الأمين العام المساعد للحكومة الترويج لأجواء “لا للتهدئة” من خلال مقاله، وسعيا منه لإرباك هذه التهدئة التي لا تريحه ولا يرتاح لها، يقرر في خطوة لا يمكن أن يحسن الظن بها أن يذكي من جديد الخلاف حول مصطلح كان قد أثار الكثير من الخلاف من قبل البدء في جلسات التحضير للتشاور، وقرر الجميع أن يتجاوز ذلك الخلاف على أساس أنه لا مشاحة في المصطلح، وأن المهم هو المضمون. يقول الأمين العام المساعد للحكومة : “فتم الإلحاح على إجراء “حوار وطني” رفضته الأغلبية، إذ لا مسوغ سياسي له. ومن باب العطف على المعارضة قبلت الأغلبية “التشاور” معها في القضايا الوطنية الكبرى” . ثم يواصل القول : “واجتمعت اللجنة التحضيرية واستخدم رئيس حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، في خطابه الافتتاحي مفردة تشاور، وتجنب “الحوار” إذ لا حاجة لحزب مهيمن إلى حوار معارضة ضعيفة ومفككة، لكنه عطفا عليها قد يشاورها، فإذا عزم توكل على الله، ثم على رصيده الشعبي الهائل…”
هنا أرجو أن يسمح لي الأمين العام المساعد للحكومة بطرح هذا السؤال السريع : أين هو الآن”الرصيد الشعبي الهائل” للرئيس السابق؟
لقد أثبتت تجارب الماضي القريب جدا جدا أن هذا “الرصيد الشعبي الهائل” الذي تتحدث عنه اليوم، والذي كنتَ تتحدث عنه بالأمس، لا يمكن التعويل عليه.
لم يكتف الأمين العام المساعد للحكومة في مقال “لا للتهدئة” بمحاولة إذكاء الجدل من جديد حول مصطلحي “التشاور والحوار”بل حاول أن يسدد طعنة أخرى لهذا التشاور من خلال التقليل من شأن مخرجاته، واصفا تلك المخرجات بأنها ” لا تعدوا (الألف الزائدة من النص الأصلي) كونها توصيات قد يستأنس بها الجهاز التنفيذي بما لا يتعارض مع برنامج رئيس الجمهورية، وتقديرا للصالح العام.”
إن مضمون وتوقيت مقال “لا للتهدئة” لا يبعثان على الارتياح، خاصة وأن كاتبه يحتل وظيفة حكومية سامية، ويبقى السؤال المطروح لدى كل المهتمين بنجاح التشاور : هل مضمون هذا المقال يعبر فقط عن الأمين العام المساعد للحكومة، أم أن المقال يعبر عن جهة ما داخل النظام بدأت تتشكل وتعمل لإفشال التشاور من قبل أن ينطلق؟
الرسالة الثانية: وتتمثل هذه الرسالة في إصرار بعض الجهات داخل الأغلبية أو الحكومة على تمرير مشروع قانون الرموز المثير للجدل.
صحيح أننا بحاجة في هذه البلاد إلى قوانين رادعة تحمي من هذا الانفلات اللفظي ومن هذا التساهل في الوقوع في أعراض الناس دون أدلة؛
وصحيح أيضا أن مشروع قانون حماية الرموز كان قد تم تأجيل نقاشه في وقت سابق، وأن نسخته الجديدة أجريت عليها تعديلات هامة أبعدت الإساءة إلى رئيس الجمهورية عن الإساءة إلى الرموز الوطنية، وجعلت الإساءة إليه مع الإساءة إلى بقية الموظفين العموميين، كما أنه في نسخته المعدلة سحب تصوير قوات الأمن من الأفعال التي يُعاقب عليها، وهي التي تحتك عادة بالمواطنين، وأبقى فقط على تصوير عناصر القوات المسلحة بغية النيل من الروح المعنوية لهم أو زعزعة ولائهم للجمهورية.
صحيح كذلك أن لجنة العدل والداخلية والدفاع بالبرلمان رفضت مقترحي تعديلين لنائبين في المعارضة كما رفضت مقترحي تعديلين لنائبين في الأغلبية.
صحيح كذلك أن مقترحات التعديلات أعطيت لها فترة كافية لعرضها على اللجنة، وأنه ما زال بالإمكان عرضها في الجلسة العلنية المخصصة لمناقشة مشروع القانون والتصويت عليه ( مقترح النائب محمد بويا ومقترح النائب العيد، أما مقترح النائب محمد أمبارك فقد تم إلغاؤه لأنه لم يقدمه للجنة).
صحيح كذلك أن جوهر الخلاف الحالي لا يتعلق برفض اللجنة لاستقبال مقترحات التعديلات، وإنما يتعلق أصلا بعرض مشروع القانون في البرلمان، فنواب المعارضة يريدون أن تناقش مواده في جلسات التشاور المنتظر من قبل أن تعرض على البرلمان للمصادقة عليها، ونواب الأغلبية لا يريدون تأجيله إلى التشاور.
كل ذلك صحيح، ولكن كل ذلك لن يمنع من طرح الأسئلة التالية : لماذا تصر الأغلبية على تمرير مشروع هذا القانون المثير للجدل في هذا التوقيت بالذات؟ أليس من الأسلم تأجيل أو سحب مشروع هذا القانون حتى لا يعمق الشرخ بين الأغلبية والمعارضة في مثل هذا الوقت الذي يحتاج إلى المزيد من تعزيز الثقة بينهما لإنجاح التشاور المنتظر؟
ختاما
إن أي متابع للشأن العام يهتم بنجاح التشاور أو الحوار، ويأخذ مسافة واحدة بين الأطراف المعنية بالتشاور، لابد وأن يشعر بالقلق من هذه الرسائل غير المطمئنة التي تأتي من أوساط داخل النظام.
لقد كنتُ من الذين عاشوا قلقا مع بداية الحديث عن التشاور بسبب عدم تحمس بعض الأطراف في المعارضة للتشاور، وقد عبرتُ عن ذلك بقوة في مقالات عديدة، واليوم بدأتُ أشعر بأن هناك بعض الأطراف في الأغلبية تريد أن تشوش على التشاور، الشيء الذي يستوجب الوقوف ضدها بقوة.
إن ما يجري على حدودنا، وفي كل الجهات، يستدعي من كل العقلاء في هذا البلد الوقوف صفا واحدا ضد كل من يحاول أن يشوش أو يُفشل التشاور المنتظر. ومما لا شك فيه أن هناك في الأغلبية والمعارضة من يَحِنُّ إلى زمن الصدام والتجاذب السياسي العنيف، وذلك بسبب أن بضاعته لا تروج إلا في مثل تلك الظروف.
فليقف العقلاء في هذه البلاد صفا واحدا ضد هؤلاء وأولئك، وبذلك سنضمن نجاح التشاور، وبذلك سنحقق المصلحة العليا للبلد.
حفظ الله موريتانيا…
/محمد الأمين ولد الفاظل.