رحيل حكيم الصحراء بقلم :السيد ولد اباه
رحيل حكيم الصحراء
أعلن فجر الاربعاء رحيل المختار ولد داداه، اول رئيس موريتاني، إلى دار البقاء في أحد المستشفيات الباريسية بعد أن أعياه المرض لسنين، وأنهكته الغربة الطويلة في مدينة نيس الفرنسية، التي قدم إليها منفيا بعد أشهر طويلة من السجن إثر الإنقلاب العسكري الذي أطاح به في 10 يوليو 1978، وبعد سنوات من الإقامة في تونس إلى جانب صديقه الراحل الرئيس بورقيبة.
ومع أن الرجل عاد إلى بلاده في يوليو 2001 مستمتعا بشمسها الحارقة وهوائها الصحراوي النقي وبالحديث مع البقية الباقية من جيله الذي وضع معه اللبنات الأولى للدولة الموريتانية، إلا أن أوضاعه الصحية الهشة لم تمكنه من العودة النشطة للحياة السياسية والاجتماعية، وهو الرجل الذي عرف بدماثة خلقه وقربه من الناس ونأيه عن بريق السلطة الذي لم يكن مهيمنا عليه خلال العقدين اللذين قضاهما في الحكم.
وبرحيل الرجل الذي كان يدعى أيام حكمه بأب الأمة، يكون مضى نموذج فريد من الشخصية السياسية أبدعته ظروف لن تتكرر، فهو ابن الخيمة الصحراوية وسليل الأسرة العلمية المرموقة حيث تكون في محضرتها الزاهرة (أي الجامعة التقليدية البدوية) ومن هناك استبطن خصال الوسط النخبوي الزاوي (من قبائل الزوايا العالمة) التي تتمحور حول شيم الأنفة والتواضع والجلد والمروءة، في حين دخل المدرسة الفرنسية في مدينة بوتلميت وتلقى تعليما مكينا سمح له بأن يكون أول موريتاني يواصل دراسته الجامعية في فرنسا حيث تخرج مجازا في القانون ومحاميا متشبعا بالمثل الليبرالية والقيم التحديثية الجديدة.
وحين عاد ولد داداه إلى بلاده بعد رحلته الجامعية في منتصف الخمسينات، لم يكن بالطالب النكرة، بل كان من أفراد النخبة السياسية المحدودة التي تقرر أن يرتبط بها مصير البلاد التي جابها شرقا وغربا مترجما للإدارة الاستعمارية ومستشارا منتخبا في مجلسها التشريعي ومناضلا نشطا في تشكيلاتها السياسية.
ومن المفارقات المثيرة أن الرجل الذي وقع عليه اختيار الإدارة الاستعمارية رئيسا للحكومة الأولى المشكلة في عهد الحكم الذاتي (1957-1960)، قبل أن تدعم ترشيحه رئيسا للدولة المستقلة عام 1960 لن يتأخر في إظهار تميزه وإعلان خطه الوطني المناهض للاستعمار والمتضامن مع حركات التحرر العربية والإفريقية، على الرغم من مقاطعة العرب له ومن حاجته الحيوية إلى الدعم السياسي والمالي الفرنسي لبناء كيان دولة بدت هشة ومستحيلة.
ويذكر له التاريخ وقوفه الشجاع مع الثورة الجزائرية ورفضه لأي مساومة مع الاستعمار الفرنسي حول حدوده مع جاره المحتل، مما كاد يكلفه موقعه في الحكم حسب شهادة جاك فوكار، مستشار الرئيس الفرنسي ديغول آنذاك.
كما يذكر له أنه بادر بتبني القضية الفلسطينية قضية وطنية وقومية أولى، فرفض عروض الوسطاء مع إسرائيل في فترة كان يعاني من الحصار العربي ويحتاج إلى رعاية أمريكية لانضمام بلاده لهيئة الأمم المتحدة الذي تعثر لأجل الفيتو السوفياتي.
وقد ذكر لي الأستاذ محمد فائق وزير الإعلام المصري في عهد الرئيس جمال عبد الناصر ومستشاره للشؤون الإفريقية، كيف اكتشف عبد الناصر المواقف القومية لولد داداه ووظفها في سياسته الإفريقية والدولية. فاضطلع رئيس موريتانيا الأول بدور مركزي في تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية وساهم مساهمة جليلة في تأمين الدعم الإفريقي المطلق للموضوع الفلسطيني، وكان الوسيط الأول بين الصين في عهد ماوتستونغ الذي ربطته به علاقة قوية والزعيم المصري الراحل. ولم يتردد وبلاده مقصية من النادي العربي في قطع العلاقات الديبلوماسية مع الولايات المتحدة وبريطانيا إثر عدوان 1967 ، وسارع إلى تبني العمل السياسي الفلسطيني، فكانت المكاتب الفلسطينية في الخارج مسجلة في اللوائح الديبلوماسية الموريتانية وكانت موريتانيا مركزا رئيسا من مراكز التنسيق العربي حول هذا الموضوع المحوري الذي شغله في رحلاته المكوكية الطويلة التي عرف بها.
كما ربطته صلات حميمة بالعاهل السعودي الراحل الملك فيصل بن عبد العزيز الذي زار نواكشوط في مطلع السبعينات وكانت عندئذ قرية صغيرة تحبو على رمال الأطلسي المتحركة، ولم يكن الملك فيصل يخاطب ولد داداه إلا بتسميته «حكيم العرب».
ولقد وظف ولد داداه مكانته الدولية وعلاقاته الخارجية في تأمين الدعم لتنمية بلاده خصوصا من لدن البلدان العربية النفطية التي ساهمت بقوة في تمويل المشاريع الكبرى التي عرفتها البلاد في عهده (مثل طريق الأمل الرابط بين شرق البلاد وغربها واستغلال مناجم الحديد والنحاس وبناء السدود على نهر السنغال…).
ولم يتردد الرجل الذي أوصله الفرنسيون للسلطة عام 1960 في الاستغناء عن معونتهم المالية لميزانية بلاده منذ بداية الستينات، وبادر منذ عام 1974 بتأميم شركة الحديد (ميفارما) التي كانوا يسيطرون عليها، كما راجع اتفاقيته الدفاعية معهم، وأنشأ عملة محلية بديلة عن الفرنك الغرب إفريقي، مما جلب له نقمة المحتل السابق الذي بدأ يصنفه في صف الثوريين الراديكاليين خصوصا بعد ما اقترب كثيرا من بومدين وسيكوتوري ومن الصين الشعبية التي أقام معها علاقات تعاون وثيقة منذ عام 1965.
وفي سياسته الداخلية انتهج الرجل الذي تبنى آلية الحزب الشعبي الواحد منذ عام 1961 خطا مرنا تدريجيا مكنه من استيعاب شتى السياسات والديناميات الأيدولوجية والاجتماعية في تركيبة الحكم على الرغم من فترات طبعها التأزم خصوصا في سنوات التجربة الأولى.
بيد أن حرب الصحراء التي اشتعلت عام 1976 بعد اقتسام موريتانيا والمغرب للإقليم الذي كانت تستعمره إسبانيا فاجأت الرجل الذي كان يثق بوعود صديقه بومدين الذي أكد له مرات عديدة مباركته لأي اتفاق مغربي موريتاني في الموضوع قبل أن يحتجزه في مدينة بـشــار ويطالبه تحت التهديد بالانسحاب من اتفاق مدريد، كما لم يضع حسابا لضربات جيش البوليزاريو الذي وصل إلى العاصمة نواكشوط مرتين وكاد يدخل قصره وهو يجتمع بوزرائه.
ولذا لم يكن من المستغرب أن ينهار نظام ولد داداه في 10 يوليو 1978 إثر قيام انقلاب عسكري ناجح قاده رئيس أركانه، فانتهى به المطاف في سجن مدينة ولاته في الركن الشرقي الأقصى من البلاد. وقد ذكر من بعد في مقابلات نادرة أن أطرافا عديدة محلية ودولية أخبرته بخطة الانقلاب المرتقب، لكنه آثر عدم التدخل، ولعله في قرارة نفسه رحب بالتغيير القادم بعد أن بدا أن حرب الصحراء خاسرة لا مخرج منها.
وفي سنوات غربته التزم الصمت الكامل ورفض تأدية أي دور سياسي. ويذكر الذين زاروه في منفاه الفرنسي أنه كان يمضي جل وقته منكبا على مصحفه أو في مكتبته المليئة بالكتب الدينية والسياسية، مسترجعا ذكرياته البعيدة في المضارب البدوية، أو مستمتعا بمعزوفات مطربته الأثيرة منينـة، في حنين متصل للبلاد التي أعطاها سنوات عمره ولم يحمل منها سوى ثوبه البدوي البسيط، حيث لم يسم شارعا ولا بناية باسمه ولم يملك سوى منزل صغير استولت عليه الحكومة العسكرية بعد الإطاحة به.
وكانت أمنيته الوحيدة وهو يعود لبلاده عام 2001 أن يدفن في مقبرة عائلته ببوتلميت، فكان في العامين الأخيرين يتأهب لهذه اللحظة مستنكفا عن جلبة الساسة وحساباتهم التي أرادوا دون نجاح توريطه فيها
السيد ولد أباه