وقفة مع الأدب والمطالعة/محمد لغظف ولد احمد
كتب محمد لغظف ولد أحمد:
وقفة مع الأدب والمطالعة:
يستحق طه حسين رحمه الله لقب عميد الأدب العربي، غير أنه حقيق بلقب عميد الأدب الفرنسي. فالرجل لم يبخل على القوم بشيء من التعظيم والإعجاب والدراسة فأثروا فيه غاية التأثير، أو هذا ما يظهر لمن قرأ كتبه.
كتبَ عن باريس فمدحها لَبنة لَبنة، بيتا بيتا، سكّيرا سكّيرا، ثم جعل من ذلك بابا لهجاء شوارع القاهرة وأدبائها. وصادف مرة وجوده في باريس تشييع جنازة لمغنية فرنسية، فكتب عنها وعن تاريخها الحافل وجعل ذلك مدخلا للتنقيص من فناني العرب والخوض في عراقتهم في الفن، وقد تجاهل -وهو العالِم الموسوعي-أن معبدا وحبابة كانا يغنيان في دوحة المجد العربي فيأتيان بألحان عِذاب وأصوات تلائد وما على وجه الأرض حينئذ قيْنة تغني بالفرنسية.
ثم يذهب الرجل لبلجيكا ويفتتن بقسّ مكث ساعة يخطب في بلاغة نادرة معتبرا ذلك من الأدب الذي لم يأت الزمان بمثله في العرب، متناسيا ما كان من خطابة الحجاج وخالد بن عبد الله القسري وأبي حنيفة والأوزاعي وغيرهم.
ثم يعرج على ما لمؤلفي فرنسا وأدبائها من علم وحكمة وبيان، وكيف لمن قرأ مجلدات الأصفهاني والزجاج وابن قتيبة والمبرد وبدائع الحريري وتاريخ ابن كثير وابن خلدون أن يلتفت إلى سرديات أخرى أتتْ دون ما عرفه من عجائب الأدب، ولو قرأها قبل ما وقف عليه من آداب العرب لأنصفناه.
ثم يتحفنا بما سبقنا به محققوهم من البحث العلمي والأكاديمية، وهو الذي نهل من القاموس المحيط ولم يفته أن أهل الحديث كان لهم أعظم جهد في تاريخ التحقيق فأخرجوا لنا الروايات الصحيحة والسقيمة ومحصوا آلاف الرواة حتى صار الراوي كالمرآة وضوحاً وتفصيلا، فيعدلون الرجل ويجرحون أباه، ويخالفون أهواءهم برمي السني بالكذب والحكم للشيعي بالعدالة بناء على معايير علمية صافية، وقد روى البخاري عن رجال عرفوا بالتشيع فلم ينقص ذلك من عدالتهم. ووضع الشهرستاني رحمه الله مبادئ الأكاديمية وأسس البحث العلمي في مصنَّفه الملل والنحل، فـأتى بجميع المذاهب ووصَفَ معتقدات أصحابها دون تجريح أو انتصار، تاركا الحكم للقارئ، مبينا سبب ذلك في مقدمته حين قال: “وشرطي على نفسي أن أورد مذهب كل فرقة على ما وجدته في كتبهم من غير تعصب لهم ولا كسر عليهم، دون أن أبين صحيحه من فاسده أو أعيّن حقه من باطله، وإن كان لا يخفى على الأفهام الذكية، في مدارج الدلائل العقلية، لمحاتُ الحق ونفحات الباطل”.
صُدم أدباء الغرب ومؤرخوه عندما رأوا الأدب الجاهلي وجن جنونهم حين عرفوا أن الشاعر من هؤلاء ينظم قصيدة من تحف فنية وهو لايكتب ولايقرأ، فأرضاهم طه حسين رحمه الله وقال إن الشعر الجاهلي مكذوب ومنتحل. ونحن إذا سلمنا بذلك -على ما فيه من ادعاء ساقط علميا أثبت بطلانَه المستشرقون قبل العرب-، يبقى شعر الطبقة التي بعد الجاهلية ثابتا متواترا لدينا ولديهم، فكيف يصنع أدباء الغرب مع ذي الرمة والنميري وجرير والفرزدق وابن الدمينة، فهؤلاء أغلبهم شعراء بادية دأبوا على إتحاف العالمين بلذيذ الشعر وفصيح الخطاب، وهم كلهم لم يرتادوا جامعات وما عرفوا المدارس ولا المعاهد، ولا درسوا الفلسفة ولا عرفوا أفلاطون.
كيف يمكن للأديب الفرنسي اليوم وهو الدكتور المثقف أن يصدق ما دار بين جرير والفرزدق في أمر الناقة والتفاتها إلى جرير وسجالهما في أمرها، ثم إذا استوعب القصة كيف يصدق أنهما لم يدخلا جامعة ولم يقرآ رواية لجابريل جارسيا ماركيز، ثم إذا استوعب ذلك كيف له أن يترجم تلك الأبيات إلى الفرنسية.
كيف سيترجم قول النميري:
تلقّى نوؤهن سرار شهر — وخير النوء ما لاقى السرارا
ثم كيف سيصنع مع قوله:
وأنضاء أنخنَ على سعيد — طروقا ثم عجّلن ابتكارا
على أكوارهن بنو سبيل — قليل نومهمْ إلا غرارا
حمدْنَ مزارَه فأصبن منه — عطاء لمْ يكنْ عدة ضمارا
أزعم أن ذلك المثقف سيحلق رأسه ويرمي ثيابه ويقول: “لماذا ليست للنميري شهادة دكتوراه”؟
لو كنتُ معظّما أديبا لعظمت غيلانَ والنميري وتوبة وإخوتهم، لِما أتحفونا به من درّ منثور وهم أهل بادية ومشقة، فما عرفوا لملذات الحضارة طعما ولا تعلموا في الجامعات ولا تكلّفوا في آدابهم، ثم لم يبطلوا ذلك بالمن والأذى وذِكرِ دَورهم البارز في ازدهار الأدب العربي ولو فعلوا ذلك لكان حقا لهم، لكنهم تولوا بصمت وهم لا يحسبون أنهم صنعوا شيئا، فخرج من المعاصرين دكاترة يجهلونهم، فما عرفوا إلا فيكتور هوغو وشارل بودلير ومارك توين وزعموا أن أولئك بلغوا القمة في الآداب وإليهم منتهاها، وما يطيق أولئك أن يأتوا بواحدة من عجائب المتنبي.
وكان أخ فاضل قد أرشدني لما في الروايات العالمية الغربية والروسية من أدب وإمتاع فأخذت أطوف فيها وأطالعها، ومن سوء حظي معها أني قرأت من كتب الأقدمين قبل ذلك فألِفت حرف الأوائل، ولم أطق أن أتعود سرديات الروائيين، فما قرأت رواية إلا لقيتها دون الذي كنت أؤمله من المتعة التي عهدتها عند الجاحظ وابن قتيبة (بل وطه حسين أيضا :)).