سقوط الأحزاب العقائدية/نختبر ولد الغوث
حدثان مهمان، وقع أحدهما هذا العام، ووقع الآخر عام أول، لم أر من وقف عندهما من ناحية جديرة بأن يوقف عندها. أما الأول، فسقوط حكومة الإنقاذ في السودان، وحلُّ حزبها، بعد حكم السودان نحوا من ثلاثين عاما، وحلول العسكر والشيوعيين محلها. وهو دليل على أن الحركة الإسلامية في السودان عجزت عن أن تورِّث نهجا في الحكم، يجعل الأمر إلى الشعب، ويلجم نزوات الجيش عن التفكير في الانقلابات، وما يتبعها من عصف بالبلد، أو لم تفكر في ذلك. ولا بنت دولة، ينال مواطنها الحد الأدنى من ضروريات الحياة بثمن لا يبهظه. وإذا ووزنت الحال التي تركت عليها البلد بالحال التي وجدته عليها، لم تكن خيرا منها. وكان من أسباب ذلك النزاعُ الذي دبَّ إلى الحركة، وما تبعه من قطْع رأسها، والاستغناء عن عقلها المفكر، واستبداد العسكر دونه بالحكم، وتعطيل خططها، والسير بالبلد وجهة غير التي أراد له مفكرها؛ فما كانت ثورتها سوى انقلاب من انقلابات إفريقية التي أهلكت الحرث والنسل. ولم أر من أحزاب العقائد العربية من قرأ هذه التجربة قراءة متعظ، بل ما زال بعضها يترسم خطا الحركة السودانية، ويسلك مسالكها إلى الحكم، ويهتدي بتجربتها، كأنها بلغت كل ما أرادت، وكانت مثلا يقتدي به المقتدون، ويظن أن سينجو من مآلها، وما جرَّت على السودان، كدأب بعض العرب: يفعلون الفعل، ويظنون أن سيكونون بمنجى من سنن الله، حتى يفجأهم منها ما لم يكونوا يحتسبون. والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من وُعِظ بنفسه؛ لأنه لا يتعظ حتى يصلى. لقد قال حسن الترابي -رحمه الله- إن حركته شرعت تخطط للانقلاب مذ أيقنت أن الغرب لن يدعها تصل إلى الحكم عن طريق الديموقراطية. وكان ذلك منها عدم حصافة؛ فإن الغرب الذي يحول بينها وبين الحكم بطريق الديموقراطية، قادر على أن يمنعها البقاء فيه إذا وصلت إليه بانقلاب، إلا أن منع الوصول أقل تبعات من منع البقاء؛ لأنه لا يتعدى الحؤول بينها وبين الحكم، ومنع البقاء لا يكون إلا بحصار البلد، وتفتيته،وتجويع أهله، وإيقاد نار العداوة بينهم، حتى يكونوا هم الذين يثورون عليها ويسقطونها. وكان من الحصافة التفكير في طريق ثالث، هو الخروج من التنظيم والسياسة إلى الثقافة، والتعليم، والاندماج في سياسة البلد، وتسديدها، وعونها على بناء البلد حتى يبلغ من القوة ما يمكنه من أن يختار خياره الحضاري، لا يخشى حربا ولا حصارا. ولكن النضال في هذا الميدان، مع أنه مضمون العواقب مأمونها، لا يصبر عليه إلا أقل الناس، وما أظن أن أحزاب العقائد في الوطن العربي تقوى عليه، أو تفهمه؛ لأن عقائدها لم تعلمها إلا المغالبة والمصادمة، وليس لها سلف تقتدي به في هذا النهج، ولكنها تعرف من انقلب على سلفه فحكم، ومن ترشح في انتخاب، ففاز بمقعد، أو بلدية، ولا تعرف من قاد شعبا بالنضال المدني الذي يبنى الإنسان، ويحمِّله الأفكار وتمثُّلها، ويحمِّله مهمة إقامتها في الحياة وإقامة الحياة على وفقها. فكان لزاما ألا تتعظ إلا بنفسها.
والحدث الثاني إنشاء حزبين تركيين بقيادة أحمد داود أوغلو (حزب المستقبل)، وعلي بابا جان (حزب الديموقراطية والتقدم)، وهما عضوان مؤسسان لحزب العدالة والتنمية. ولا بأس بإنشاء الحزبين، ولا بخروج رأسيهما من حزب العدالة والتنمية، فما حزب العدالة والتنمية إلا حزب منشق عن الحركة التركية، وما رئيسه رجب طيب إلا عضو من أعضائها، خرج عنه غيره كما خرج هو عن غيره، وإن كانت دواعي الخروج شتى: خرج هو ورفاقه بعد أن بلغ حزب الرفاه مداه، ولم يبق في قوسه منزع، وبدا أن جمهوره لا يزيد، لأسباب تتعلق بشروط عضوية الحزب، وجمهوره، والخطاب الذي ينبغي أن يخاطب به، فرأى هو ورفاقه أن مصيره إلى انتهاء؛ لأن “الهلال إذا لم يكبر يصغر”. أما دواعي خروج أحمد داود وعلي بابا ورفاقهم من الحزب، فخلاف بينهم وبين رجب طيب، في بعض سياسته وعلاقته بأعضاء الحزب، وهذا ما يهمني في هذا المقال؛ فإنه دليل على أن الحزب حديث عهد بالديموقراطية، وما زال رأسه متأثرا بعهد الحركة، وثقافتها وما فيها من سيطرة الفرد، وعد الأعضاء مريدين للمرشد وتلامذة له، لا أعضاء يساوونه. من أجل ذلك لم يتسع حزب العدالة والتنمية للخلاف الذي قد يبلغ حد التناقض في الديموقراطيات العريقة، ثم لا يكون له تأثير في تماسك الحزب، ولا يترتب عليه انشقاق ولا فصال؛ لأنه، كالدولة المعرقة في الديموقراطية: مؤسسة مستقلة عن الأشخاص، لها نظمها الواضحة، التي وضعها الأعضاء، وهي قابلة للتغيير، على حسب ما يجدُّ من مقتضياته، وليست عقائدَ تلقَّن، ولا فروضا تُفرَض، ثم يلزم الأعضاء طاعتها، ولا قيودا يعاق بها عن غير المعهود في العمل الحركي، وإن كان خيرا من المعهود. وهي من السعة، والمرونة، والعقلانية، بحيث تتيح للأعضاء أن يكونوا حيث يرون، وإن خالفوا الحزب ووافقوا خصومه، وأن يعلنوا بذلك، ولا تلزم أحدا أن يوافق الحزب في بعض ما لا يرى. وهذا من أسباب أن الأحزاب في الديموقراطيات العريقة تأتي عليها العقود الطوال ما انشقت، ولا وقع فيها ما يقع في أحزاب العالم غير الديموقراطي، كما تأتي على البلد القرون ما وقع فيه انقلاب، ولا تغير نظام حكمه.
ويستوقف من الواقعتين التركيتين أمران: أن رئيسي الحزبين من ألمع مؤسسي حزب العدالة والتنمية، وأعظمهم شأنا، وتوليا أرفع المناصب في حكومته (وزارة الخارجية، ورياسة الوزراء، ووزارة الاقتصاد)، وكان أحدهما أستاذا جامعيا مرموقا (أحمد)، ويعدُّ الآخر أبا الاقتصاد التركي (علي)، وهذا من دواعي أن يكون لهما تأثير في سياسة الحزب، وأن يكون رأيهما مما يعتدُّ به. والأمر الثاني أن الحزبين لم يؤسسا إلا بعد مدة من الخلاف بين رئيسيهما ورئيس حزب العدالة والتنمية، وذلك يعني أن السبل إلى الوفاق قد سدت، ومحاولات الصلح قد استنفدت. هذا إلى ما يقال من أن جل مؤسسي حزب العدالة والتنمية قد خرجوا منه. وليس تقويم الخلاف بين هؤلاء وقيادة الحزب مما أعتمد هاهنا؛ وإنما يهمني أصله العقدي الذي أرى أنه بني عليه، وتأثيره في الحزب، وفي الاتجاه الإسلامي عامة. ومن العادة أن يرد بعض الذين ينتقدون على رجب طيب مخالفة الرفاق إلى الاستبداد، وقوة الشخصية، فهما اللذان جعلا الرفاق ينفضُّون من حوله، وجعلاه يستبد بتسيير الحزب والدولة على ما يرى، على مخالفته ما ينبغي من النهج الذي ارتضى الحزب من يوم تأسيسه، وما يقتضي الذمام، من قدْر الرفاق، والوفاء لهم، والحرص عليهم. وهذا يجعل رجب طيب هو الحزب، ويجعل بقاءه وتأثيره مرهونين بشخصه، ولا يُدرى، إذا انتهى عمره السياسي، من يخلفه، وهل يمكن أن يبقى الحزب بعده، ويبقى تأثيره وقوته وتماسكه، أم سيكون كحزب نجم الدين أربكان بعد رحيله، حزبا صغيرا، لا يحصل من المقاعد على ما يدخله مجلس النواب؛ لأنه لم يُبن بناء المؤسسات، وإنما كان حزب شخص وعقيدة، فلما ولَّى الشخص، ولى الحزب في أثره، وأحزاب الأشخاص والعقائد لا تعمر. وإذا صح أن هذا هو حال الحزب، وما سيكون مصيره، فلعل رجب طيب تعجَّل الإنجاز وسرعة الوصول إلى ما يبغي، وشغله ذلك عن بناء مؤسسة سياسية، تبقى، ويمكن أن تحكم بعده زمنا طويلا، كما يريد لها، فيسير الخلف منها على نهج السلف، أما تعجُّل الإنجاز وحده، وإن عظم، فيحول دون ذلك؛ لأن المتاح من الزمن (عشر سنين) لا يتأتى معه إلا إنجاز محدود، وإذا رحل عن الحزب وهو غير متماسك، ولا على نهج سوي، كان عرضة لأن يتفكك، ويكون هو كواحد من رؤساء تركية الذين أبلوا، فأحسنوا البلاء فيما كلفوا، ثم لما انتهى عمرهم السياسي لم يجدوا من يسير بسيرتهم، كتورغوت أوزال.
وأعني بأحزاب العقائد كل جماعة تزاول السياسة، وتبني عملها على أفكار، تنزلها منزلة العقيدة، وتجعلها فوق أن تراجع، أو توضع موضع النقد والتقويم، وإن لم تعلن بذلك، ولكن لسان حالها يقوله، كما يبدو من ثباتها على نهج واحد، وتردادها مقولات، لا تتغير، واعتقادها أنها على صواب فيما تأتي وما تذر. والأحزاب التي هذه حالها قد سقط أكثرها في العالم، كأكثر الأحزاب الشيوعية، والحزب النازي، والأحزاب القومية، كأحزاب البعث، والأحزاب الناصرية، في الوطن العربي، وجبهة التحرير الوطني في الجزائر، وبعض الأحزاب الإسلامية، كالحركة الإسلامية في السودان، وحركة الإخوان المسلمين في مصر، وجبهة الإنقاذ في الجزائر، وحركة الكادحين في موريتانية. وليس معنى السقوط الزوال المطلق، فقد يبقى بعضها، لكنه يكون ضعيفا، ولا تأثير له، ولا يكاد يقتنع به إلا أعضاؤه. فهذه الأحزاب عرضة للسقوط أكثر من غيرها، وإن كان الأصل أن تكون العقائد لحاما، يشد المنتسبين بعضهم إلى بعض، ويوحد أفكارهم. وإنما كانت هذه الأحزاب عرضة للسقوط أكثر من غيرها، وكان إخفاقها حتما، لأسباب، أهمها:
1- الجمود، وعدم القدرة على التجدد؛ لأنها غير ديموقراطية، والديموقراطية تتيح تغيير الأفكار والأشخاص؛ فإن الأمور فيها إضافية (نسبية)، وحتم على من أراد الحق والخير ألا يثبت على شيء، لا يستيقن صحته، ولا يجزم بأنه أمثل الموجود، بل قد يكون غيره خيرا منه وأصح، بخلاف العقائد، فإن مبناها على اليقين، من أجل ذلك كان الذي يغلب عليها الثبات على ما عرفت لاعتقادها أنه هو الخير، والحق المطلق؛ ولذلك تظل قيادتها أبدا في يد شخص، أو أشخاص معدودين؛ لأنهم -عند أنفسهم- أكثرها استيعابا لعقيدة الحزب، وأقدرها على تبلُّغ غاياته، ومن الغالب أن يكونوا هم المؤسسين، والمؤسس أدرى بما يريد. ولما كان الإنسان محدود العقل، محدود القدرات، وإذا اعتاد أمرا، ألفه، وغدا من ثقافته وليس في وسعه أن يعدل عنه، أو يفلت من سلطانه، وغدت عاداته عقيدة، تحجب عنه ما يجدُّ من أفكار ووسائل، خير مما عهد، كان لزاما أن يُغيَّر الأشخاص، ويُستبدَل بهم بين الفينة والأخرى، وإلا أدرك الحزب من الجمود ما لا صلاح عليه. وتتيح الديموقراطية من تغيير الأشخاص ما يغير الأفكار، والنهج، والسلوك، ويتيح من التقويم، والسير بالعمل في طريق جديد، ما لا يتيح الثبات، كما يتيح لكل جيل أن يوجه الحزب على ما تقتضي حاجاته وفهمه وواقعه. والثبات صفة تشترك فيها أحزاب العقائد كلها، ولذلك لا يكاد رئيس الحزب فيها يتغير إلا بالموت، كما لا يتغير الرئيس المستبد إلا به. ونتيجة هذا الحتمية هي التحلل السريع أو البطيء، أو النهاية بعد مدة من الحكم، تتسم بالعسف، والشك في كل مخالف، وعده عدوا للثورة، والحزب، ورميه بالرجوع، والتخلف، وما يترتب على ذلك من قتله، أو نفيه، أو سجنه سجنا مؤبدا، أو سجنا طويلا، وأكثر من ينال ذلك منه المثقفون؛ لأنهم هم الذين يعلمون، ويفكرون، وغيرهم لا يعلم، ولا يفكر؛ فمن دأبه أن يجمد على ما عرف أول مرة كما تجمد العجائز على ما ألفن، ولُقِّنَّ من العقائد، ويكون آخر يوم في حياتهن كأول يوم. ولهذا كان لأحزاب العقائد مع المثقفين تاريخ غير مشرف، يبين عن بعضه قتلُ الخمير الحمر كلَّ ذي نظارة أملس اليدين؛ لأنه مظنة أن يكون مثقفا، وخلوُّ حركة الإخوان المسلمين بمصر من المثقفين حتى قال يوسف القرضاوي: لم يبق في الإخوان إلا المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما يعافه السبع، ومن “يكثَّر بهم السواد، ويطفأ الحريق، ويُشغب على السلطان”، وما نال المثقفون المخالفون في عهد الحكومات القومية العربية من نفي، وسجن، وتشريد، وملاحقة، واغتيال.
2- التحلل من الأخلاق: وسببه ما يعتقد الحزب من أنه على الصواب المطلق، وأن من يخالفه مخطئ بيقين، وأنه خير للبلاد من أهلها، وأغيرهم عليها، وأخلصهم لها، وأبصرهم بمصالحها، وأن كل ما يعمله سائغ؛ لأنه يبلغه مقصدا مشروعا؛ فيتحلل من القيم، ويغدو فعله وتركه هما ميزان القيم، ويجعل نفسه وصيا على البلاد، من غير أن يُستوصى عليها، أو يعترف له غيره من أهلها بأنه أهل لأن يكون وصيا عليها، فيغدو دولة في دولة، يذكي العيون في داخله ليطلع قيادته على كل قول أو فعل يصدر من عضو من أعضائه، من أجل أن تبادر إلى معاملته بما هو أهله، كالفصل، والتشهير، إلخ؛ فإذا خرج العضو من الحزب، استحل منه ما حرم الله والأخلاق، وعومل أسوأ معاملة تهتدي إليها القيادة. ويعرف الخارجون من الأحزاب الإسلامية من ذلك ما يندى له جبين الأخلاق، ويسودُّ وجه الفضيلة، ويستنكف منه اليهود والنصارى والملحدون، كحرب إخوان مصر على حزب الوسط، لما خرجوا من تنظيمهم، فكان مأمون الهضيبي، مرشد الجماعة يومئذ، يقول: “إنني أستطيع أن أجعلهم يسيرون في الشارع بلابيص”، أي: عراة، لا يملكون شيئا، وكانوا يسمونهم “مطاريد”، ويمنعنون أعضاء جماعتهم من لقائهم، وردِّ السلام عليهم، إذا لقوهم اتفاقا، على أن هذا يسير فيما نالوهم به من كيد، وجد في أن يحولوا بينهم وبين ترخيص حزب سياسي، حتى ضج كل ذي دين ومروءة مما فعلوا بهم ، وكان يوسف القرضاوي يقول إن الإخوان يجب أن يتوبوا إلى الله مما فعلوا بشباب حزب الوسط. وبهذا ونحوه يشتغل الحزب بصناعة الأعداء، فإن حكم يوما كانوا عليه مع كل من أراده بسوء، حتى يسقطوه. وإذا فكر الحزب في الحكم، لم يستنكف من وسيلة، تبلِّغه غاية، ولم ير بأسا بأن يقيم دولة في دولة، فتغدو له استخباراته، ووسائل تجسسه، ويخترق مؤسسات الدولة، فلا يستثني منها شيئا، ليعرف كل ما يمكنه أن يعرف منها، وكيف يستعين بذلك على بلوغ ما أراد، ويمكِّن فيها لرجاله، وإن لم يكونوا أهلا لما يوليهم؛ فيعم الفساد المالي والإداري، على ما يسوِّغ به حرصه على الحكم من إرادة الإصلاح، ومحاربة الفساد. وقد ذكر حسن الترابي جانبا مما كانت تتوسل به حركته من الوسائل للوصول إلى الحكم، فقال إنها كانت لها أجهزة اتصالات، ومخابرات، فلما قررت الانقلاب، نفذته بأعضائها، فألبستهم ملابس عسكرية، هي حاكتها لهم. وكذلك فعلت جماعة الخدمة بتركية، لما أرادت الانقلاب على الحكم عام 2016، فلم تستنكف من رد البلد إلى حكم العسكر الذي رزح تحته منذ الانقلاب على السلطنة العثمانية، ولا استنكفت من التخطيط لاغتيال مسلمين معصومي الدماء. وبهذا ونحوه يسوَّغ التجسس على الأشخاص، والأحزاب، وانتهاك حصانتهم وحصانتها، بالدخول فيها بنية إفسادها، وإفساد خططها، وضرب بعضها ببعض، وسلبها حقوقها الدستورية والإنسانية، ويكون لسان حال الحزب: البلاد لنا من دون الناس، ولا حق فيها لغيرنا، ومن حقنا أن نفعل بها وبأهلها ما نشاء، وكل ما يبلِّغنا ما نريد، فهو مشروع لنا؛ لأنه هو مصلحة البلاد والعباد. وبه يسوَّغ ما يسعى فيه بعض الأحزاب من ابتلاع الشعوب، من أجل ولادتها كما تشاء الأحزاب، لتصلح للحياة التي تريد لها، إلخ، ولو علم الشعب وأحزابه وتوجهاته الفكرية والثقافية وأشخاصه المعتبرون ما تصنع أحزاب العقائد من انتهاك حرماتهم وما تبيت لهم، لأعلنوا الحرب عليها. وإذا قدر للحزب أن يحكم صير البلد دولة بوليسية، وكان همه الأكبر البقاء في الحكم أطول ما يستطيع، وإن استيقن رؤوسه أن ليس في وسعه أن يعمل شيئا، وسعى في تفتيت الشعب، وتحطيم مرجعياته الثقافية؛ ليضعف كل كيان غيره، حتى لا يكون في وسعه أن ينافسه، ويكون ما يسوِّغ به فعلته أنَّ حكمه، ولو لم يصنع شيئا، خير من حكم غيره؛ لأنه هو خير من في البلد للبلد: أتقاه، وأنقاه، وأدراه، وأصلحه، وأخلصه، إلخ. وإذا طال الأمد على الحزب تآكل، فغدا دمية، ليس فيها سوى الأخطاء المزدحمة، والسوءات المزمنة، لكن ذلك يستر بثقافة باطنية، تؤَوِّل ما يتكشف من الأخطاء، والدعاية التي لا تستنكف من خلق ما تقول، والوعود، لا يوفى بها، وتقليب الأمور، وجعل الباطل حقا والحق باطلا، والهزائم نصرا، فإن قدر له أن يحكم لم يكن عنده ما يحكم به إلا تلك الثقافة الباطنية التي سرعان يتكشف أمرها لمن كان يخفى عليه، ثم يسقط كما سقط كل حزب مثله، وتذهب تلك الآمال والوعود والتضحيات الجسام أدراج الرياح.
نختير ولد الغوث