الاقتصاد الموريتاني: من الليبرالية إلى الليبرالية المتوحشة/الرئيس أحمد ولد داداه
الاقتصاد الموريتاني: من الليبرالية إلى الليبرالية المتوحشة/مقال سابق للرئيس أحمد ولد داداه
مايزال الجدل القديم بين الاقتصاد الليبرالي والاقتصاد الموجه بعيدا عن الحسم حتى ولو كانت إحدى الفكرتين قد طغت على الأخرى بشكل مؤقت.
لنسلم بأن الحرية ككل تشكل شرطا لانعتاق الإنسان وتحرير طاقاته الخلاقة. غير أن الحرية عموما, والحرية الاقتصادية خصوصا لا يمكن أن تحظى بتقدير معتبر إلا ضمن العلاقات الاجتماعية حيث تبلغ الحرية ذروتها وتصل إلى غايتها في خدمة المجتمع دون أن تلحق في نفس الوقت أي أذى بالفرد. وهذا التوازن والتناغم يشكلان إذن أهم الضوابط التي يجب احترامها أثناء ممارسة اللعبة.
وستتناول هذه المساهمة النقاط الثلاث التالية:
1-طريقة عمل الليبرالية الاقتصادي
2- التجربة الاقتصادية لدول كبرى كانكلترا والولايات المتحدة الآمريكية واليابان والصين.
3- ستكون الحالة الاقتصادية الموريتانية موضع تقييم خاص وسيتم استخلاص نتائج في نهاية هذه المراجعة.
أ- طريقة عمل الليبرالية الاقتصادية
تتجلى القاعدة المؤسسة لليبرالية الإقتصادية في إقامة تنافس مطلق وكامل، ومع أن التنافس بهذه الصورة لا يوجد إلا في أذهان المنظرين لاقتصاد السوق أو في معالجاتهم و كتبهم التي ينشرون إلا أنه يبقى من المسلم به كذلك أن المنافسة هي المنظم الطبيعي للسوق وهذه المنافسة تتطلب وجود قواعد يمكن أن نلخصها فيما يلي:
– حرية حركة عوامل الإنتاج: اليد العاملة, المواد الأولية, رؤوس الأموال.
– وجود محيط إداري ومالي وغيرهما يتساوى فيه الجميع دون أي غبن أو امتياز.
– وجود فاعلين اقتصاديين ذوي قدرات متماثلة تجعلهم يتنافسون بصورة متكافئة وتتلخص فكرة مبدإ المنافسة في التصحيح التلقائي للنظام الإقتصادي الذي ستقوم به قوى السوق دون تدخل من الغير.
قد يقال إن هذا الأمر نظري وذلك صحيح ولكن هذا وحده هو الذي يعطي للنظام الاقتصادي انسجامه المطلوب وبإمكاننا أن نتطرق إلى كيفية عمل هذه القوى لا على الصعيد النظري بل على صعيد التطبيق من خلال اقتصادات الدول البارزة الأربع : انكلترا، الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان و الصين.
ب- التجربة الاقتصادية الإنجليزية والأمريكية واليابانية والصينية
أ- أصبحت انكلترا في القرن التاسع عشر رائدة التبادل الحر وذلك بسبب توفرها على اقتصاديين يغرقون في التنظير كالاقتصادي البارز دافيد ريكارد، وقد رسم الاقتصادي الفرنسي شارل ريست وهو يعبر عن اعتراضه على نظام التبادل الحر في انكلترا الصورة الكاريكاتورية التالية : إن وضع انكلترا يشبه وضع من استخدم سلما لبناء طابق فوق بيته ثم
أخفى السلم فور انتهائه من البناء وقال للآخرين (افعلوا مثلما فعلت).
وفي فترة ما بين الحربين العالميتين وعندما بدأت بوادر أفول انكلترا تلوح بالأفق وأخذت البطالة ترتفع إلى درجات مقلقة قام الاقتصادي الابريطاني جون ماينارد كينز بتجديد الفكر الليبرالي داعيا إلى تدخل نشط للدولة من أجل محاربة البطالة وخلق فرص عمل بعبارته المشهورة (استئجار أناس لحفر حفر تدفن فيها قنينات ثم استئجارهم من جديد لاستخراجها أفضل من البطالة). لقد كان التنظير في هذه المناسبة وفي غيرها دائما في خدمة المنفعة والمصلحة البريطانية.
ب – ونلاحظ في هذا المجال تشابها مع بريطانيا في الولايات المتحدة الأمريكية التي انتصر فكرها الليبرالي من خلال مدرسة شيكاغو وممثلها الأشهر ميلتون فريدمان. وليست العولمة إلا نتاج أطروحات نظرية –لم تحظ بأي برهنة- لهذه المدرسة وتتبنى مؤسسات ابروتون وودز (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) كما هو معروف وجلي هذه الأطروحات. وكل إنسان يعرف ماينتج عن ذلك : التصحيحات الهيكلية، التسريح الكثيف للعمال، الخوصصات العشوائية، بل بيع المؤسسات العمومية بأثمان بخسة، مع ما ينجم عنه من هزات أو اضطرابات اجتماعية.
ماذا سيحدث غدا مع الصعود القوي للصين؟
لا توجد مجازفة في المراهنة على أن الفكر الاقتصادي الأمريكي سيتطور كما تطور شقيقه البريطاني ولقد اعترف البنك الدولي منذ ما يقارب خمسة عشر سنة بخطورة الهزات الاجتماعية الناجمة عن التصحيحات الفجائية وضرورة إضافة بعد اجتماعي للتصحيحات الهيكلية.
ولكن الاعتراف بالحقيقة شيء ومعالجتها بالطريقة المثلى شيء آخر. فإلى هذا اليوم مازال نظام تمويل التنمية يتخبط دون أن يعثر على حلول مثالية للمشاكل المطروحة.
وكيفما كان الأمر فإن الولايات المتحدة الأمريكية البلد الرائد اليوم في مجال حرية المبادرة وحرية السوق يقظة جدا إزاء قواعد المنافسة وتتوفر على لجان متخصصة تعمل على محاربة الأوضاع الاحتكارية والتواطؤات غير المشروعة ووضعيات الهيمنة والإغراق وغيرها من العراقيل التي قد تحد من السير الطبيعي لحرية السوق. وهذه اللجان نشطة جدا وتتمتع بطواقم من الموظفين الأكفاء, ولها هيبة شديدة نالتها من تفانيها ودقة تحقيقاتها واستقصاءاتها وصرامة العقوبات التي تطبق أحيانا.
ولعل الجميع سمع عن معاناة مايكروسوفت، عملاق المعلوماتية الصغيرة التي تواجه منذ نحو عشر سنين سلسلة من التهم بخرق للقوانين الأمريكية المتعلقة بالتصرفات المضرة بالمنافسة الاقتصادية وذلك في ولايات مختلفة مما قد يتسبب في إدانات تؤدي إلى تغريم الشركة عشرات المليارات من الدولارات وربما قادت إلى إفلاسها.
إن الأمثلة المقدمة عن انكلترا والولايات المتحدة تظهر أن الدول عندما تتوفر على القوة الاقتصادية والعسكرية تدعو وغالبا تفرض الحلول التي تنسجم أكثر مع مصالحها.
ج – وفي اتجاه مختلف تعتبر حالة اليابان حالة مفيدة جدا فإضافة إلى خسارتها الحرب ضد الغرب وإلى ارتباطها الحيوي بالتصدير للخارج وفي مقدمته أولئك الذين هزموها بالأمس اتخذت اليابان من الليبرالية عقيدتها الاقتصادية كما اختارت النموذج الديمقراطي الغربي في الوقت الذي استخدمت فيه إدارتها وثقافتها كجزيرة دائبة العمل استخدمت كذلك بعدها الجغرافي ورواتبها المنخفضة وانسجامها الاجتماعي القوي من أجل اعتماد سياسة الإغراق حماية لاقتصادها وضمانا للسيطرة على الأسواق الخارجية.
إن وزارة الصناعة والتجارة الخارجية في اليابان تخوض حربا حقيقية فهي تضع الاستراتيجيات وتحدد الضوابط وتوفر الدعم للقطاعات والمجموعات المحتاجة وتفصل أو تحكم بين المصالح الخاصة المختلفة مستخدمة في ذلك أساسا التنظيمات الفعالة التابعة لهيئات أرباب العمل.
ودون أن ترفض بشكل علني واردات بعض المواد أو الخدمات المنافسة تقوم اليابان بتثبيط همم المصدرين الأجانب عن طريق البطء المفرط الإجراءات والتصرفات الجمركية المتشددة حيث يمكن لبعض المنتوجات الموجهة إلى السوق الياباني أن تبقى مدة سنتين في الموانئ بسبب محرر لاترى الجمارك أن معلوماته كتبت بصورة مناسبة أو بسبب تشابه بين تسميتين أو تحديد غير واف لمكونات المنتج مما يؤدي في النهاية إلى تحميل البضاعة الغير المرغوبة من التكاليف ما يجعلها تصبح غير قادرة على المنافسة، وربما تجاوزت أحيانا المدة المحددة لاستهلاكها.
إن هذه الإجراءات مدانة بالإجماع في الولايات المتحدة الأمريكية وفي أوروبا باعتبارها غير ليبرالية وغير تنافسية إلى درجة أن فرنسا أقامت في وقت من الأوقات في مدينة بواتيي في وسط البلاد مكتبا مكلفا بمركزة المعاملات الجمركية لمجموع الواردات القادمة من اليابان. وكانت الحلول الوسطى تمثل في كل مرة الحل المتاح في مثل هذه الحالات بينما يواصل كل طرف طريقه الخاص عاملا على الحفاظ على مصالحه الشخصية.
د- وتأتي حالة الصين بدورها بعد حالة اليابان لتقلب الطرق التقليدية للنظريات والتحليلات الاقتصادية وتدفع مراجعة القول بالهزيمة النهائية للاقتصاد الموجه من قبل الاقتصاد الليبرالي. فهاهو بلد كان قبل ثلاثين سنة مثارا للسخرية بسبب ما يقال عن فشل صناعاته في مجال الحديد والصلب المرتكزة على الأفران العالية الصغيرة ووحدات الصلب المصغرة، وسياساته في ترشيد رأس المال في الاعتماد المكثف على اليد العاملة وفضلا عن تهميشه حتى داخل معسكره الاشتراكي وثورته الثقافية وتقديسه لماوتسي تونغ استطاع خلال سنوات محدودة أن يحقق وثبات كبيرة إلى الأمام دون تبجح وبتواضع كبير.
فقد حققت الصين وحافظت على نسب نمو حقيقية تصل إلى رقمين بالنسبة لإنتاجها الداخلي الخام الذي ضاعفته ثمان مرات خلال خمس وعشرين سنة ما بين 1979 إلى 2003 (من 800 مليار دولار إلى 6500مليار دولار أمريكي) كما حققت تحولا كبيرا في جهازها الإنتاجي وأصبحت عنصرا أساسيا في التجارة الدولية وفي الاقتصاد العالمي بحيث أصبح ينظر إليها وبصورة طبيعية كدولة مرشحة لأن تصبح أعظم قوة اقتصادية في المستقبل.
إن كل هذه النجاحات قد تحققت بواسطة تطوير النظام السياسي بدلا من تفكيكه كما وقع في الاتحاد السوفياتي السابق. فالنمط الاقتصادي الشيوعي الموجه مازال موجودا لكنه ببساطة تكيف عن طريق إعطاء مساحة محدودة ومراقبة للحرية الاقتصادية بل ومصوغة وموجهة من أجل استفادة أكثر من المنافع التجارية والتكنلوجية للسوق العالمي. ومن أجل التمكن من إدماج هونغ كونغ وماكاوو التي أدمجت بالفعل وتايوان التي تسعى الصين لإدماجها على أساس صيغة دولة واحدة ذات نظامين.
وبعبارة أخرى يمكن القول بأن المصلحة الوطنية للصين كانت المحرك الأساسي لما حدث.
هذه التجارب تبين تعدد طرق التنمية ووحدة الأهداف السياسية والاقتصادية مع مراعاة الأهداف الخاصة بكل بلد والمناهج المستقاة من تاريخه وثقافته الخاصة به.
إن الحرية الاقتصادية متلازمة فعلا مع الحرية بشكل عام ومع الديمقراطية في انكلترا والولايات المتحدة الأمريكية وتوجد الديمقراطية بالتأكيد في اليابان لكنه يوجد كذلك اقتصاد موجه فيها بينما استطاعت الصين المحافظة على مستوى تنمية لم يسبق له مثيل في التاريخ بواسطة صرامتها وثباتها وتنوع قطاعاتها الاقتصادية لكنها لم تعرف أبدا الحرية الديمقراطية وليس لديها من الحرية الاقتصادية إلا هامش محدود.
ولكن كيف كان الأمر في بلدنا نحن موريتانيا؟
ت- لنبحث الآن حالة موريتانيا
موريتانيا ليست ذات اقتصاد ليبرالي ولا بلد اقتصاد موجه.
– هل موريتانيا بلد اقتصاد موجه؟ الجواب بالطبع لا. لقد خصخصت الأغلبية الساحقة من شركات الدولة وشركات الاقتصاد المختلط حتى لانقول بيعت بثمن بخس أو صفيت في ظروف غامضة.
لقد كان خيار الدولة أو الخيار الذي أملاه عليها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في هذا الصعيد واضحا. وخارجا عن التصنيف إنه التراجع الملموس إذا لم يكن التخلي الكلي للدولة عن لعب أي دور توجيهي أو تأطيري أو تنظيمي وترك الأمور كلها بيد ميكانيزمات السوق.
– هل يوجد بالبلد اقتصاد سوق حقيقي؟ وبعبارة أخرى هل توجد منافسة فعلا؟
يمكننا أن نلاحظ غيابا ملموسا لمنافسة حقيقة فيما يتعلق ب :
– تصدير منتجات الصيد ومعادن الحديد التي يتم تصديرها بصورة حصرية من طرف الشركة الموريتانية لتسويق الأسماك والشركة الوطنية للصناعة والمناجم.
– الاستيرادات المراقبة بصورة مباشرة أو غير مباشرة بمجموعة محدودة جدا من رجال الأعمال الذين يتواطؤون طبعا تواطؤا غير مشروع كما يدل عليه التطابق في أسعار الإسمنت والدقيق والأرز والسكر والشاي واللبن مثلا.
– الصفقات العمومية المخصصة لثلة من أصحاب الامتيازات كما تدل عليه تصرفات اللجنة الوطنية للصفقات التي فشلت في احترام الإجراءات والقوانين المتعلقة بصيانة أسرار الصفقات وإعطاءها عن طريق المناقصات مستعيضة عنها بالإعطاء المباشر للصفقات والتخويلات.
– إعطاء القروض رغم غياب أو عدم كفاية الدراسات الجدية وعبر الوساطات السياسية والأخطر من هذا وجود أصحاب بنوك تجار مما يهدم الثقة بين الزبناء والبنوك ويفتح الباب أمام منافسة غير شريفة و يؤول إلى القضاء على الطابع الاقتصادي واللاشخصي لمعايير انتقاء الملفات.
– إعطاء العملات الصعبة بصورة لاتخضع هي الأخرى للمعايير التقليدية كرقم الأعمال وتسديد المعاملات الجارية وديون الممونين وسداد الخدمات…الخ
إن كل هذه الإخلالات فضلا عن كونها تمثل عراقيل واضحة في وجه المنافسة من خلال التواطئ اللامشروع والأوضاع الاحتكارية الفردية والجماعية وشخصنة وانتقائية الحصول على القروض وعلى العملات الصعبة وعلى الصفقات العمومية. كما تمثل كذلك وبشكل رئيسي الفتيل الذي يلهب الأسعار مع التذكير أن المستورد يتحمل كل المخاطر من أجل الحصول على العملة الصعبة التي يحتاج إليها بدءا بالرضوخ لسعر السوق السوداء الذي تجاوز ستين أوقية تقريبا بالنسبة لكل أورو مقارنة مع سعره المحدد من طرف النظام المصرفي ومرورا بمخاطر السفر بأوراق نقدية قد تضيع أو تتعرض لاعتداء أو لمصادرة جمارك البلد المضيف تحت طائلة مكافحة تبييض الأموال وكل هذه المخاطر سوف تحمل على سعر المنتوج أو الخدمة التي سيدفعها المستهلك.
إن ارتفاع الأسعار الذي ينهك القوة الشرائية للمستهلك ويتجلى في انهيار في قيمة الأوقية يرجع إذن إلى وجود حالة هيمنة على سوق الاستيراد وعدم وجود قوة استيراد موازية فضلا عن هيمنتها على نظام منح القروض والعملات الصعبة والصفقات العمومية. ولايرجع –كما يقال رسميا أحيانا- إلى عوامل التضخم الخارجي المستورد بينما لم تعرف الدول الأوروبية وهي الممون الرئيسي لبلادنا أي تضخم خلال السنوات الأخيرة. لكن السلطات العمومية في بلادنا لاتقوم بدور التنظيم الذي يجب أن تقوم به في مواجهة هذه الوضعية المقلقة فهي تكتفي بالبقاء متفرجة على المسائل التي تطرح عليها ولايبدو أنها مهتمة بعملية السير المتناغم للنظام الاقتصادي بل تقتنع بأول تفسير يقع في يدها. بينما كنا رأينا أن الليبرالية الأمريكية التي تمثل قواعدها المرجع اليوم -محاربة الإلتواءات- توفير ظروف المنافسة، الشفافية…الخ
هل الطابع الهجين للنظام الاقتصادي الموريتاني الذي يستحيل تصنيفه يستمد جذوره من النظام السياسي الذي هو أيضا هجين وشخصاني وغير شفاف؟ أليس غياب قواعد عامة تطبق على الكل هو الطابع المميز للنظام الاقتصادي ونظام الأعمال؟
إن القطاع غير المصنف والتبتيب يسدان الممرات الاقتصادية وكما يحدان من الحرية بصورة عامة يحدان إذا لم نقل يقضيان على حرية المنافسة ويعرقلان السير الحسن للنظام الاقتصادي ويعوقان بصورة جدية ديناميكيته. وإن هذا الوضع يقوم بالرد على سؤالين كخاتمة لهذه المساهمة :
خاتــمة
ماذا بوسع موريتانيا أن تفعل؟ ماذا ينبغي علينا أن نفعل في موريتانيا؟
إننا لانحتاج إلى أن نبين أنه لايمكننا أن نتجاهل الاتجاه المهيمن في العالم ولا أن ننعزل عنه ولكن هل نحن مطالبون أيضا باعتناق الإيديولوجية الليبرالية إلى هذا الحد ونسيان من نكون وماذا نريد أن نصبح والتخلي عن هامش المناورة الذي يمكن أن نتوفر عليه إذا أردنا.
وإن الأمثلة التي جرى التنويه بها أعلاه والمتعلقة بإنكلترا والولايات المتحدة الأمريكية واليابان والصين تبين اختلاف الوضعيات مما يعني أيضا اختلاف المواقف حيث إن كل بلد يستفيد في مقاربة خاصة تخدم أهدافه الوطنية.
وهذه المرجعية تدلنا بصورة ناصعة على أننا لم نقذف بأنفسنا مكبلي الأيدي في قلب الليبرالية ومجردين من أبسط قواعدها فقط إننا سقطنا في براثن الليبرالية المتوحشة ولم نستطع أن نوائم الليبرالية السياسية مع الليبرالية الاقتصادية.
هل نحن مع حرية الأقوى في أن يسحق الأضعف؟ هل نحن مع أن يكون رجل الأعمال قادرا على تحديد السعر الذي يريد وعلى حساب البسطاء والضعفاء؟ لا أعتقد مبدئيا أن أحدا يتمنى هذا.
هل نتمنى كذلك أن تظل الاستيرادات تنافس بصورة غير شرعية النشاطات الصغيرة التي تأسست بصعوبة وبرأسمال ضعيف وخبرة متواضعة وتقضي عليها؟ لا أظن أن هذا في مصلحة أحد.
إنني مقتنع من وجود نقطة إلتقاء وسط تجمع بين ضرورات تنمية متحكم فيها قدر الإمكان وضرورة الالتحام مع الاقتصاد الدولي. نحن لسنا اليابان ولا الصين بطبيعة الحال ولكننا رغم صغرنا نستطيع أن نتوفر على قدر ولو بسيط من المبادرة. وهامش ولو بسيط من التصرف ويجب أن تظل مصلحتنا الوطنية والجهوية والدولية في جميع الظروف هي الموجه لعملنا والمنظم لإيقاع مسيرتنا.
هذا الخيار الذي هو خيار المسؤولية يتطلب عملا مزدوجا :
استحداث هامش عمومي صغير (للمياه وتوزيع الطاقة والتهذيب والصحة العمومية وصحة الحيوان). ويغطي أيضا كل مجال يظهر فيه عجز في المبادرة أو في المنافسة من طرف القطاع الخاص.
– إقامة هيئات حكومية لمكافحة التصرفات المضرة بالمنافسة وضد التواطؤات غير المشروعة ويجب أن يتم تكميل ودعم مثل هذه الهيئات من قبل منظمات من المجتمع المدني مثل اتحاد المستهلكين وهيئة مكلفة بالبئة إضافة إلى تقوية دور النقابات في ميادين (الصحة في أماكن العمل وأمن ظروف العمل وشروط التعويضات…الخ)
-إن الأمر يعني في النهاية اختيار ليبرالية مصوبة ذات بعد إنساني وتأخذ في الحسبان ظروف الطبقات الأضعف في أماكن العمل وفي الكبات وفي آدوابه والقرى والحواضر والأرياف.
– إن هذه المقارنة ليست فقط مطلبا أخلاقيا إنها أيضا شرط في السير المدعم للنظام الاقتصادي وللسلم المدني وبالتالي لأمن أولئك الذين هم أكثر غنى كما أنها تمثل في نفس الوقت عنصرا مهما في ضمان الاستقرار بمعناه الواسع الذي يدعو إليه بكل صدق تكتل القوى الديمقراطية (التكتل).
بقلم: أحمد ولد داداه