تحليل قصيدة ” بوح الى القمر ” للشاعر : الشيخ بكاي / بقلم النجاح بنت محمد فال
هذا التيه الدؤوب ذى السبع العجاف المنبعث من صمت العواصف ! لايمنع الشاعر الشيخ بكاي من الحلم
ألا فا سمعي :
احبك …
لا تغضبي ,
بل إنه يقترب رويدا رويدا ليطوى مسافة الزمن العنيد وهو الذى رمى به تيها بسبع عجاف لكن قدرته الشعرية الفذة جعلت الحلم يكابر فيطوى ويطوى مسافة الامس والامس
(يحملنى من الأمس للامس نايا تحطم منذ المقدرُ كان .. ) ليلحق الهزيمة بالزمن عن طريق شظايا الناي ويتحد من جديد بعالمه الحالم
...ألا فا سمعى :
أحبك ..
لا تغضبى ا
تلاشت المسافة لم يعد هناك امس ولا غد فيلتحم الشاعر بأناه بخصوصيته -الحلم-
لا أدوات لا أطراف …لا شظايا بل أنا .. انا من أحلُم :
انا حبة الرمل بين الفجاج تقاذفني الريح منذ اتيتِ
إلى قوله :
لم أُستشر !
هنا يهرب ! لكن بحلمه :
…. تبارك الذي صاغ الدرر !!
حتى التمزق الرومانسي الذى اعتراه فى بداية المقطع الثاني من الجزء الأول :
((ولو كان لي الامر ما كنتِ جرحا يؤرق ليلى ويسرق عمري))
لايسمح له أن يتوارى بل إنه ينسج خيوط اتصال أقوى تسمو بالاحلام إلى حيث لا يتواجد غير الشاعر وحلمه :
ولوكان لي الامر ماكنت جرحا يؤرقني .. ويسرق عمري
وكنا سكنا عيون السحاب ..وكان لنا الفجر بيتا يطير.
فنعلو .. ونعلو فنسبح بين ذرات الأثير..
فنطفو على قمم الغيم نلهو ،
ونمرح فوق هضاب النجوم..
ونفترش الأفق الذهبي بعيدا
ونلبس صافي النسيم
ونلعن هذا الزمان الشقي
من الحلم.. إلى ما وراء الحلم ..إلى نشوة الحلم ..إلى العلو …إلى الارتفاع .. إلى قداسة الاحلام ، فى عنفوانها .. فى تطرفها ..واحيانا فى لعنتها شقاءَ المغلوبين ..
هذا هو التيه الرومانسي الذي أبدع فيه الشاعر الشيخ بكاي إذ يتلاعب بكل ادوات الطبيعة (النجوم -الهضاب – النسيم- القمر ) ثم يفض خشوعا في عالم الغيب: ( وما ريشة الرب حين براك – تباركت يد الذى صاغ الدرر)
ليس سهلا أن تحلم فضلا عن أن تتحد بحلمك (ليلايَ ) وليلى هنا رمز للاتحاد والتفرد فى نفس الوقت .. فهي أول ليلى وآخرها ! فى حياة قيسِها الذى ما إن ابدع بهذا المقدار من الاتحاد والتفرد بالحلم – ليلايَ – فتباركت يد الذي صاغ الدرر . و ألهم هذا الشعر
توظيف رومانسي غير مسبوق : فيه تفرد الكآبة ..و بوح العاشق ..وغنى الحالم .. و وهم الحب ! فهل الحب وهم كما رآه نزار قبانى :
الحب فى الارض بعض من تخيلنا
لولم نجده عليها لاخترعناه
وهل الشعر بوحُ حالم؟ تداعبه توبة نصوح كما رآه الشيخ بكاي :
ليلايَ…..
أتوب إليك ..
غزالتى الشاردة ..
سيبقى شعورى حبيس الليل الاجرد
صدى ينسحق بداخلى ..يعيش من رمادي
لن ابوح به إلا لهذه الورقة الناحلة ..أو ربما إلى القمر .
وقد وظف الشاعر الشيخ بكاي غزالةً شارد ليسابق أحلامه وليتقي من خلالها فقد الحرية فى معانقة الحلم فجاء التلاقى بين غزالته فى حريتها وانطلاقها ليقابله شعور حبيس ليل اجرد..ثم لينصهر فى ذاته لتتعايش بداخله حسرتان :
– حسرة حلم هارب شارد كالغزال وحسرة احتراق استحال رمادا – صدى ينسحق بداخلى ..يعيش من رمادي .. أي يتنازعه الانزلاق والشرود والاحتراق والعدم إلى حدّ الرماد
إذا من التوبة إلى الهروب ! إلى سجن الاحلام ( سيبقى شعورى حبيس الليل الاجرد ) إلى التسامي واللجوء إلى كنه الطبيعة إلى وجوم الأحلام ..
وهنا يبلغ التمزق الرومانسي مداه فى علاقة التقابل الضدي بين حرية الغزالة الشارد ! والشعور السجين – حبيس الليل الاجرد .
– تقابل يعززه ما للشاعر العربي القديم من التعلق بالشرود الجامح بعد يأس وتمزق صممه هذا الشاعر العربي الضنين .. التهيم والظنين .. تاسيا بغزالة شارد منها استمد حرية لايريد ان ينالها ! فى مأزق وجودي ما صاغه إلا لأنه جزء منه فلجا إلى الإسقاط كحل هروبى ليلبس المرأة صفة الشرود ويطلق العنان لحريته -الحلم – كما فعل امرؤ القيس مسقطا تولى الحلم وانكساره على غزالة من وحش وجرة مطفل أي ذات ولد صغير يمنعها التعلق به من ان تنظر الى الشاعر في لوحة بديعة :
تصدُّ وتبدي عن أسيل وتتقي
بناظرتين من وحش وجرة مطفل
فلا مجال للضياع كل شيء مرتب .. مصان حتى يحيل احتراق الشاعر فى تفرده وكآبته ..في حلمه إلى رماد.
– يعيش من رمادى – وهنا اكتمل توظيف الأدوات الرومانسية بين الرماد كرمز للاحتراق والعدم والبوح للقمر كرمز للتعالى على الذات.. على الواقع …على القيود:
وانت ستخرجين من منطقة الشك .. سأقتله كما تقتلني مشيتك الزلزال ..
هل كان النص وفيا لوعد الشاعر ؟ حين قال ستخرجين ..بل حين أراد أن يحقق حلمه منفردا ..
أم أن هذا التحرر من الشك الذى حاول أن يرتقى بأحلامه من الشك إلى اليقين! ما يلبث أن يتهاوى منه فى قيود رسفت فيها أحلامه ليتما ها معها في المقطع الثالث والأخير من القصيدة :
قيدي قوي وقيدك أقوى …
وظلك يكفى..
فلا تهربي ..
غير أن هذا الانهيار الحالم لا يلبث ان يحلّق فى قمم التفاؤل والاتحاد فى محاولة قدَرُها أن لا تموت .. لان لاينكسر الحلم !
سابقى أحبك جرحا دفينا..
احبك مهما طواك البعاد ..
ومهما هربت ..ا
اطارد فيك جمال الوجود ..
ثم تستمر المطاردة ..
مطاردة الإنسان لأحلامه فى صراعه مع سطوة الزمن : فى منحى وجودي لايفارقه التفاؤل الرومانسي والعناد المتأتي من التعلق بانتصار الإنسان على قهر الزمان انسجاما مع تفرد قيس ب”ليلاه ” فيلجأ إلى التسامي .. إلى علو المغيبات ليستمد منها القوة الكافية لمطاردة الحلم .. وهذه الازمة الوجودية تبعث لديه مسحة دينية يلقى بنفسه فيها كمخرج لازمة الحلم المنبثقة عن ثلاثى منشأه :
– لتمزق الرومانسي الذي يلاحقه تفاؤل الرومانسي و انغماسه في أحلامه إلى حد الاتحاد والتلاحم بل إلى الذوبان .
– الهروب الوجودي الى قدر مجهول لايتحدد إلا ليصبح جزءا من مصير آخر في غيب مكنون
– مسحة دينية تغذيها نزعة التدين عند الشاعر
ليتماها مع ذاته الدينية : تلك المسحة التي تراءت في الجزء الثاني من القصيدة : و ستتراءى لاحقا في الجزء الثالث والاخير لكنها تبدأ بالتوبة فى الجزء الثانى من القصيدة :
ليلايَ..
أتوب ليكِ ..
غزالتى الشاردة ..
والتوبة هنا ليست بالضرورة انكسارا وإنما هروب المسلم من ذاته الى اللجوء الى القدر، فقد تحيل إلى ان المقصود : من أجلك اتوب ولا مفر هنا من تقدير ياء النداء يا غزالتى الشاردة ! فكأنه بهذا النداء للقريب المفتعل يستصرخ جميع القوى.. يلملم شتاته لينتزع الحلم الشارد ويتسامى على واقع الحلم البعيد ليجعل منه قريبا ..قريبا ..وذلك بنداء القريب فاستغنى عن ياء النداء ..
وحيث انه للإبداع فضاؤه فلشرود الاحلام أدوات تحكم ! منها اللجوء للقدر لذلك ربما جاءت التوبة ..ثم السجود الذي هو اصلا من أدوات الوصال ..وصال المسلم مع ربه ..ليوصله إلى حلم كسير كحلم الشاعر :
وأسجد لله فيك واعود .. .
وذلك فى الجزء الثالث والأخير من القصيدة
وبهذه التوبة وهذا السجود يتشكل لديه رصيد غيبي خارق يجعل مطاردة الحلم مكتملة الأركان ..
مطاردة لم تكلف الشاعر إلايسيرا لكن هذا اليسير يحيل كله إلى حاجة ماسة إلى سرعة الوصول :
هرولة النهد .. نزق الساق … دنيا العيون ..
ساحدث القمر ..عن هرولة النهد ..عن نزق الساق .. ودنيا العيون –
وبهذه السرعة وهذه الانسيابية المتفردة فى لغتها و انتظام خيوطها :
– الرومانسية
– الوجودية
-الدينية احيانا
يقهر عناصر الصراع فلايبقى حتى العدم حتى الموت يتم اختزاله فى عوالم أخرى.. ويتحقق الحلم بقهر الزمان العنيد:
وحين يموت الزمان
وتُطوى بنا الأرض طيا ..
ونمضي إلى عدم الموت صرعى
سيبقى خيالك حيا
يردد خلف رماد الزمان
حكاية حب دفين حزين ! ! !
هنا تتجلى سمفونية الصراع وينتصر الحلم فالشاعر الذى استحال رمادا في بداية النص :
صدى ينسحق بداخلى ..يعيش من رمادى يقهر – بكل الأدوات الرومانسية والوجودية والدينية – الزمن فيصير رمادا .. ذلك الزمن الذي لا يستحيل فقط إلى ميت وإنما يتم تسخير أدوات الغيب لقهره إلى درجة أن ينعدم الموت الذي هو أعظم اداة لسطوته (ونمضى إلى عدم الموت صرعى )
فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ
(سورة الحاقة الآية
وحين يبقى الحلم حيا يغنّى على أنقاض الزمن الذي استحال رمادا :
يردد خلف رماد الزمان ..
رواية حب دفين حزين …
من هنا ينتظم البقاء للحلم الذى اكتسى هنا صفة البقاء السرمدي المتأتي مما بعد الموت أي من عدم الموت – ونمضي إلى عدم الموت صرعى – أي إلى عالم الخلود الخلود …. فربما يحيل عدم الموت الى مفهوم البرزخ عندنا نحن المسلمين ويبقى الحلم لتبقى الحياة :
سيبقى خيالك حيا …
يردد خلف رماد الزمان ..
حكاية حب دفين حزين ..
الخاتمة
يفوح النص بمضامين الحلم الرومانسي
فى تفرده و كآبته وتساميه على الواقع
فى استلهامه من الطبيعة …
…وكنا سكنا عيون السماء وكان لنا الفجر بيتا يطير
في قوة العاطفة
فى حيرته الحالمة
وأكثر من ذلك فى التمسك بالحلم حتى نهاية المطاف
ياتى كل ذلك منبعثا من ازمة الحلم الرومانسي فى نفحة وجودية غنية بمداليل صراع الإنسان مع الزمن الذي يحيله الشاعر إلى رماد .
مسخرا بعض مضامين الغيب ليهزم كل مافى طريقه للحلم فيحيله إلى عدمية مطلقة فى صورة بديعة جعلت من عدمية الموت خلودا لحلمه .. فى لغة عز نظيرها سلسلة حالمة كصاحبها لا تترك للشجي من راحة الإمتاع الأدبي إلا ما لا يسعه هذا الكون,,