مهرجان (كان)…/البشير ولد عبد الرزاق

مهرجان (كان)…/البشير ولد عبد الرزاق

(كان)… المختار ولد داداه، رحمه الله، شابا في مقتبل العمر، حين اقتحم السياسة ودك أسوارها، دانت له البلاد بطولها وعرضها وجمعت له كافة الأحزاب في حزب واحد، ولقبته بأحسن لقب، قد يحلم به سياسي ممن جايلوه: “أب الأمة”،
لم يتخيل الأستاذ يوما، أن ضابطين يافعين سيقتحمان عليه خلوته فجرا، ويعلنان بين يديه أن الجيش قرر سحب ثقته منه، سيقول الراحل، بعد ذلك، إنه ود ساعتها لو ناقش ذينك اليافعين، بأن الجيش لا ناقة له ولا جمل في الأمر، لكنه وجد النقاش بلا جدوى، فعدل عنه واستسلم لقدره،
في ذلك الصباح الخريفي الرطب من يوليو/تموز، المشبع برائحة الأرض والمطر، سينتهي الأمر بالرجل داخل المقاعد الخلفية لسيارة “لاندروفر” عتيقة، وستكون تلك بداية رحلة طويلة ومضنية، ستقوده إلى سجن “الخوبه” سيئ السمعة، ثم سيمضي جل سنوات عمره وهو يتقلب في المنافي، وإذ يعود الرجل إلى وطنه، من رحلة الشتات تلك، سيصبح مجرد ذكرى من “أب الأمة”، شيخ هرم، يخطو متثاقلا داخل الممرات الأخيرة المؤدية للموت، تشد أزره السيدة مريم داداه، “النصرانية” المخلصة التي جاء بها، ذات زمن جميل، من بلاد الغال،
تقول الحكاية، إن طائرتهما حين همت بالهبوط، في مطار نواكشوط، تطلعت مريم من النافذة، فانتبه المختار إلى علامات الصدمة على وجهها، الفتاة الفرنسية المدللة، كانت تتوقع أن ترى تحتها مدينة، لكن ما شاهدته كان شنيعا للغاية، سلسلة من الكثبان الرملية، متاهات لا نهايات لها، سيشد المختار على يد زوجه، ويقول لها عبارته الشهيرة: “إنها بلد تنتظر من يبنيها”…
(كان)…محمد خونه ولد هيداله، غصنا فارعا، يطاول عنان السماء، في كل الصور التي جمعته بأقرانه، كان ينبثق من بينهم، نخلة باسقة، منغرسة بقوة في الأرض، أما البزة العسكرية، فقد صنعت له وحده دون غيره،
العسكري الخشن، الذي طرد مؤسسات “بريتون وودز” جهارا نهارا، ورفض النزول في مطار بلد شقيق وعاد أدراجه، عندما أحس بأن الاستقبال لا يليق بمقامه، سيفجر مفاجأة من العيار الثقيل، حين يقرر الرجوع إلى البلاد غداة انقلاب دجمبر84، في تلك الليلة الليلاء، لن يغمض جفن للإنقلابيين الجدد، فقد كان على أولئك المساكين أن ينتقوا من بينهم، رابط جأش، شديد الشكيمة، يستقبل الرئيس المخلوع في المطار، لا شك أن ذلك الضابط سيئ الحظ، تعرق كثيرا وارتعدت فرائصه، وهو يستلم الحقيبة الرئاسية، من رجل كانت كبرياؤه تصل درجة الرعونة،
سينتهي الأمر بولد هيداله، مقرفصا تحت خيمة صغيرة في أعماق البلاد، تذروها الرياح، جلساؤه لا يتجاوزون أصابع اليدين، تحتار في أمرها، هل هي خيمة عزاء؟ أم أنها حقا من خيام الحملة الرئاسية، كما كان يصدح بذلك مذيع نشرة الثامنة!
(كان)…معاوية ولد سيد احمد الطايع، فتى الفتيان، أينما حل، أتته الخلائق منقادة إليه تجر أذيالها، لم يقرض الشعر في رجل من أهل هذه البلاد الواسعة، مثلما حدث مع “معاوية الخير”، كانت حلقات الإنشاد تلك، تستمر حتى خيوط الفجر الأولى، لا يكاد يتخلف عنها أحد من ثروتنا الوطنية الهائلة، التي تقدر بمليون رأس،
سينتهي الأمر بالعقيد الأنيق، معلقا في السماء، داخل طائرة لم يعد قبطانها يدري ما وجهتها التالية، بعدما أعلنت إذاعة فرنسا الدولية، أن نواكشوط تخلت عن ابنها المدلل وأدارت له ظهرها،
وإذ يتم مؤخرا، تسريب صور حديثة للرجل، سيحتار مواطنوه في ملامح وجه رئيسهم الأسبق، وسيفتشون طويلا بين تفاصيل التفاصيل، لعلهم يعثرون على بقايا من بقاياه،
(كان)…محمد ولد عبد العزيز، أول رئيس في هذه الدنيا الواسعة، يقطع بثا تلفزيونيا مباشرا بحركة من سبابته، وأول رئيس يوقف مباراة كرة قدم قبل أن تكتمل أشواطها، بإيماءة لوزير رياضته، وأول رئيس يخطب في شعبه وهو على نقالة، تلف جسده الضمادات، بعد رصاصة، حير “طيشها” الموريتانيين في طول البلاد وعرضها،
سلب ولد عبد العزيز الموريتانيين علم استقلالهم ونشيدهم الوطني وأوراق عملتهم وطريقة لبسهم، ساس الرجل البلاد والعباد سنين عددا، كانت أثقل عليهم من عضات البعوض، كان وحده الآمر الناهي، حتى في أتفه التفاصيل،
سينتهي الأمر بجنرال موريتانيا القوي، جالسا في المقاعد الخلفية، داخل باص مظلل النوافذ، تقطعت أنفاسه من كثرة المسير، بين مباني إدارة الأمن وقصر العدل، صديقاه الوحيدان، صمت مطبق ومادة دستورية تحتمل عشرين قراءة وخمسين تأويلا ومائة تفسير،
الرجل الذي ذرع البلاد طولا وعرضا وسافر حتى جزر “الواق واق”، صار حبيس أسوار محافظة صغيرة، يوقع لدى أقرب مخفر للشرطة ثلاث مرات في الأسبوع، كأن الأمر وصفة دوائية، للتخلص من أمراض السلطة الثقيلة،
ويسألونك عن السلطة!!! قل هي منتنة ومفجعة أحيانا كثيرة، هي مهرجان (كان) كبير، فاعتبروا يا أولي الألباب…

زر الذهاب إلى الأعلى