التاريخ العربي الممزق ..والانفكاك عن الواقع /رضا نابل

كثيراً ما تساءلت حول ظهور «ابن خلدون» في تلك الفترة التي تشبه عصور الظلام في أوروبا، والتي تم فيها إحراق الكتب واضطهاد وحرق العلماء أحياءً بتهمة: الهرطقة أوروبياً، والكفر عربياً. فقد وُلد «ابن خلدون» عام 1332م في تونس، بعدما سقطت إشبيلية عام 1248م، وبذلك سقط الجناح الغربي للعالم الإسلامي، ليتبعه بعد عشرة أعوام سقوط الجناح الشرقي، بسقوط بغداد على يد هولاكو عام 1258م.

فـ «ابن خلدون» هو أول منْ فرّق بين التاريخ وفلسفة التاريخ قبل هيجل وماركس ومونتسكيو، وقد عرّفته دائرة المعارف البريطانية بأنه مؤرخ عربي وعالم اجتماع اشتهر كرائد لفلسفة التاريخ، حيث يقول:

أمّا بعد، فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال، وهو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب بها الأمثلة. وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق. [1]
وهذا من شأنه أن يجعل الوعي بالتاريخ هو وعي بمسار الأنا في التاريخ، هو الإحساس بالذات المتمايز عن الآخر، إحساس بالهوية قبل الإحساس بالتغاير، وهو تمايز طبيعي مبدئي يثبت وجود الأنا قبل وجود الآخر، ففي المنطق الصوري أن ألف تساوي ألف قبل أن تكون ألف غير باء. [2]

التاريخ محور قرآني
ولأهمية التاريخ، فقد جعله القرآن الكريم أحد محاوره الخمسة. ولأهمية الوعي بالتاريخ، فقد أبان القرآن الكريم أن هناك عقلاً يتكون من التجربة ومن السير في الأرض، ومن الرحلة إلى الماضي. وبيّن أن الإنسان الذي تقوم معرفته على قراءات سريعة وأحكام نظرية أضعف حساً من إنسان له معاناة في الدنيا وتجارب مع الناس [3]، وهذا العقل المتولد من المدارسة والمعاناة هو الذي يشير إليه القرآن الكريم عندما يقول:

«أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»
—سورة الحج – آية 46
والقرآن الكريم يهدف هنا إلى بناء أو إنشاء عقل تجريبي [4]، وهو ما ذهب إليه ابن خلدون، بعيداً عن الجدل بين فلاسفة أوروبا -جون وديفيد هيوم- أنصار العقل التجريبي، وبين العقل الرياضي عند دريكات، رغم أن العقلين: التجريبي والرياضي وجهان لعملة واحدة، فهو عقلي في الرياضيات، وتجريبي في العلوم الطبيعية.

وقد عرّف ابن خلدون العقل التجريبي ببساطة شديدة بالقول المشهور:

منْ لم يؤدبه والده أدّبه الزمان، أيّ منْ لم يُلقَّن الآداب في معاملة البشر من والديه، وفي معناهما المشيخة والأكابر ويتعلم ذلك منهم، رجع إلى تعلمه بالطبع من الواقعات على توالي الأيام، فيكون الزمان مُعلمه ومؤدبه لضرورة ذلك بضرورة المعاونة التي في طبعه، وهذا هو العقل التجريبي وهو يحصل بعد العقل التمييزي الذي تقع به الأفعال، وبعد هذين مرتبة العقل النظري. [5]
من هنا نجد أن دراسة التاريخ فريضة دينية، وهي إلى جوار ذلك فريضة إنسانية [6]، والعقل التجريبي هو نتاج تلك الفريضة الدينية والإنسانية، لقوله تعالى:

«لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»
—سورة يوسف – آية 111
ورغم أن التاريخ محور قرآني إلا أن العقل العربي عقل «ذري»، يفكر في الجزئيات ويصرف النظر عن الكليات، بل تشغله الجزئية عن الكلية، فيغرق في دوامتها ليعجز بعدها عن تشكيل صورة عامة لما يدور حوله.

وهذا العقل كان سائداً في أوروبا قبل ديكارت، وهو ما صار إليه الحال بعد عصر ابن خلدون عندما توقف كل جهد عقلي. [7]

التاريخ الممزق
والعقل الذري هو نتاج التاريخ الممزق، فالأوروبيون يؤرِّخون لتاريخهم بالقرون انطلاقاً من ميلاد السيد المسيح، وينقسم هذا التاريخ إلى ثلاثة عصور: العصر القديم (الإغريقي واللاتيني، بداية من القرن الرابع قبل الميلاد)، والعصر الوسيط (المسيحي)، والعصر الحديث. إننا هنا أمام استمرارية تاريخية تُشكِّل إطاراً مرجعياً ثابتاً وواضحاً، تؤدي وظيفتها على صعيد الوعي، إنها تُنظِّم التاريخ. إن الماضي هنا يحتل مكانه «الطبيعي» من التاريخ، وأيضا –وهذا هو المهم- من الوعي بهذا التاريخ. [8]

أما نحن فنؤرِّخ بزمن الأسر الحاكمة فنقول: في العصر الأموي، أو في العصر العباسي، أو في العصر الفاطمي… إلخ، ويجب أن نعترف بأن ذلك راجع إلى أننا ألِفنا هذا «التاريخ الممزق». وإذا نحن نظرنا إلى المسألة من خلال ما نُعبِّر عنه بالزمن الثقافي واللا شعور المعرفي، أدركنا خطورة هذا التاريخ الممزق على صعيد الوعي التاريخي عند العرب.

إن الأمر يتعلق في الحقيقة بالتنقل بين منظومتين مرجعيتين مختلفتين تماماً، لكل منهما زمنها الخاص، الشيء الذي جعل وعينا بالزمن محكوماً بوعينا بالمكان، فنتعامل مع الزمان كما نتعامل مع المكان، الزمن حاضر ساكن وإذا غاب عن وعينا جزء منه فغيابه يكتسي صورة الغياب المكاني، الغياب الحسي، لا المعنوي، الذي يزول بعودة الحس، وهكذا يتناوب الماضي والحاضر على ساحة الوعي العربي، بل يُنافس الأول منهما الثاني منافسة شديد حتى ليبدو كأنه هو نفسه الحاضر. [9]

وقراءة الأوروبيين للتاريخ تمنحهم استمرارية تمد أصحابها بوعي تاريخي، يجعلهم يتجهون إلى المستقبل دون أن يتنكروا للماضي، وأيضاً دون أن يجعلوا هذا الماضي أمامهم فيقرؤون فيه مستقبلهم، وذلك لأن الوعي بالتاريخ هو وعي بالسياسة، ففي مقدمة كتابه «فلسفة التاريخ» يُوضِّح هيجل صراحة وجهة نظره حول مسار التاريخ البشري فيقول:

تاريخ العالم ليس إلا تقدم الوعي بالحرية. [10]
أما نحن فقد أدى بنا التاريخ الممزق دون أن نشعر إلى الانخراط في صراعات الماضي ومشاكله، إلى جعل حاضرنا مشغولاً بمشاكل ماضينا، وبالتالي النظر إلى المستقبل بتوجيه من مشاكل الماضي وصراعاته. [11]

ففي تاريخنا لحظات لم تنته عبر السنوات والقرون واختلاف العصور، بل ظلت مستمرة. لحظات حاسمة شكّلت منعطفاً تاريخياً اجتماعياً ونفسياً على مستوى المجتمعات والأفراد، هذه اللحظات جاءت بمتغيرات نفسية واجتماعية وسياسية شكّلت عبر استمراريتها البنية التحتية الأساسية للفرد والمجتمع المسلم، وهذه اللحظات المستمرة ليست أمراً غريباً في تجارب الشعوب الحضارية.

إن لحظة «الماجنا كارتا» (الميثاق الأعظم -الميثاق العظيم للحريات) في التجربة الغربية لا تزال مستمرة مع تراكمات كمية ونوعية مختلفة. ونجد أن لحظة الصراع بين الكنيسة والعلم وما نتج عن ذلك من مفاهيم مثل العلمانية، لا تزال مستمرة مع تطورات متنوعة عبر التفاعل مع الظروف والمستجدات.

وتلك اللحظة التي ظلت مستمرة عبر العصور ولم تنته رغم السنوات والقرون، هي التي بدأ فيها التاريخ الممزق -فقد توقفنا وتجمدنا عند «صفين» 38هـ- ولم نتوقف أو نتجمد عند «بدر» ولا «اليرموك» ولا «القادسية» ولا «حطين»، لم نتجمد على «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً»، ولا على أبي بكر يخطب في الناس «إني وليت عليكم ولست بخيركم». [12]

بل توقفنا وتجمدنا عند «معاوية» وهو يعلن انفصال الواقع عن الضمير والمثل العليا، عندما يقول إنه حاول السير على طريقة أبي بكر وعمر ولكن نفسه أبت: «ولقد رضت لكم نفسي على عمل ابن أبي قحافة، وأردتها على عمل عمر، فنفرت من ذلك نفارًا شديدًا». ولماذا يسير على نهج غيره وقد ملك ناصية الدنيا والدين: «أيها الناس اعقلوا قولي، فلن تجدوا أعلم بأمور الدنيا والآخرة مني». [13]

وتجمدنا عند عقيل بن أبي طالب –أخو الإمام علي (كرّم الله وجهه)- عندما سُئل عن صراع أخيه مع معاوية، قال: «إن صلاتي خلف على لأفضل لديني، وطعامي عند معاوية لأكثر لذة».

وعند قول ابن عباس للحسين: «هؤلاء الناس سيخذلونك كما خذلوا أباك، فإن قلوبهم معك وسيوفهم مع يزيد».

وهذه اللحظة التاريخية تُنبِئ عن ثنائية قسّمت المسلم إلى قسمين: صلاته من ناحية وطعامه من ناحية أخرى، وقلبه من ناحية وسيفه من ناحية أخرى. [14] مُعلِنة انفكاك الضمير عن الواقع، فما يعيشه المسلمون يعود إلى طبيعة تشكيل عقليتهم وشخصيتهم، التي ترسبت فيها مفردات الثقافة السلبية، نتيجة للحظة التي بدأ فيها التاريخ الممزق، والتي صارت مقدسة وعصية على النقد. فمثقفو المجتمع الإسلامي لم يُنشئِوا في ثقافتهم جهازاً للتحليل والنقد إلّا ما كان ذا اتجاه تمجيدي يهدف إلى إعلاء قيمة الإسلام. [15]

من هنا كان ظهور ابن خلدون ليُنشِئ جهازاً للتحليل والنقد، يُنير الطريق في تلك الفترة التي تشبه تماماً عصور الظلام الأوروبية، مُحاولاً إيقاظ الأنا من خلال الوعي بالتاريخ، الذي يُعد وعياً بالسياسة. يُعيد اتصال الضمير المسلم بمثله العليا أبو بكر وعمر. ومن أجل هذا جعل القرآن التاريخ أحد محاوره الخمسة لبناء العقل التجريبي:

«أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»
—سورة الروم – آية 9
ولكن العقل «الذري» العاجز عن تشكيل صورة عامة لما يدور حوله، منعنا من الاستفادة من أفكار ابن خلدون، بينما استفاد منها فلاسفة الغرب في النهضة الأوروبية.

لذا علينا أن ندرس أولاً الجهاز الاجتماعي الأول لعلم «العمران البشري ومؤسسه ابن خلدون»، وهو الإنسان، فـ «إذا تحرك الإنسان، تحرك المجتمع والتاريخ، وإذا سكن، سكن المجتمع والتاريخ». [16]

زر الذهاب إلى الأعلى