تعليم المعدة/مختار الغوث

تعليم المعدة
أستوحيت هذا العنوان من مقالة أحمد أمين “أدب الروح وأدب المعدة”، وهي مقالة عرَّف فيها ما سماه أدب المعدة بأنه الأدب “الذي يدور حول سدِّ الرمق، ومَلْء المعدة، واستدرار المال، وتحصيل القوت”. وهذا التعريف يصدق على التعليم العربي الحديث أكثر مما يصدق على الأدب العربي القديم الذي وصفه بأنه “أدب معدة”؛ فقد كان دافع كثير من الأدب العربي القديم علميا وأدبيا، وأكثر ما كان منه “أدب معدة” شعرَ المديح، والكتب التي كانت تؤلف بأمر من خليفة، أو وزير، أو قائد، أو طمعا فيما عندهم، أما التعليم العربي الحديث، فقد جعل وُكْده التربية على تطلُّب الوظيفة، وما يتبعها من مال، وجاه. وصرَفَ الناس عما كان ينبغي أن يكون غايةَ التعليم، من تقويم العقول، وتصفية النفوس، واستنبات الأخلاق الفاضلة، وبناء الحياة عليها، والسمو بالأمة إلى حيث ينبغي أن تكون (خير أمة أخرجت للناس).
يقضي الطالب عامه أو فصله الدراسي وهو لا يبالي الدراسة، وإن غدا كل اليوم إلى المدرسة أو الجامعة أو راح، حتى إذا كانت ليلةُ الامتحان، أو اليوم الذي يسبقها، أكب على استظهار المقرر دون فهم، فإذا غادر الامتحان، وقد سكب على ورق الإجابة ما تعنَّى في استظهاره، خرج خالي الذهن، لا يتذكَّر مما تعنَّى في حفظه شيئا؛ لأنه لم يفعل أكثر من تهيئة الذاكرة لاختزان ما يجتاز به الامتحان، فلما اجتازه، امَّحى كل شيء من تلقاء نفسه، وعادت ذاكرته كما كانت، بيضاء نقيةً من كل ما اختزنت. وما كان الذاهب سوى مختصرات، تفيض من التصحيف والتحريف، وما لا معنى له من الكلم، أعياه فهمه، أو عجل عنه، أو زهد فيه، فتحفَّظ صوره الخطية، يتبلَّغ بها ما يريد من النجاح، ثم كتبه في ورق الإجابة كما استظهره، على وجه، يدل على أنه ما وعى شيئا مما “درس”، ولا أفاده. وإنما حمله على هذا ونحوِه أن التعلم ليس مما يبتغي، والوقت الذي خص به الاستذكار لا يتسع لأكثر مما فعل، وقد عرف جدوى ما تعوَّد في بلوغ ما يريد. وأسئلة الامتحان لا تقتضي أكثر مما فعل: فلا مجال فيها للتفكير، وإنما هي: اذْكُر، عدِّد، اختر، ضع (صح) أو (خطأ)، وما شاكلها من الأسئلة التي يغني فيها الحفظ عن الفهم، والظن عن التفكير. وإذا خرج امتحانُ بعض المقررات عن هذه الصيغ، كانت الإجابة حَلاًّ لأسئلة متخيَّرة من تمارين الكتاب المقرر، حفِظَه من غير فهم؛ لأن أستاذه أوحى إليه أنْ سيُسْأل عنه في الامتحان. وهو يعلم بعد ذلك وقبله حرص الإدارة على أن ينجح، وتذرُّعها إلى تخريجه بكل ذريعة، بالغا ما بلغ ضعفها.
ويعيب الأساتيذ التعليم، فيطول عيبهم، ويشتكون مما آل إليه، فتطول الشكوى، وتكثر الحسرات، وتُسْكَب الآهات، فإذا أُعْلِنت نتائج الامتحان، نجح الطلاب كلهم، فتتذكر قولة الحريري، على لسان الحارث بن همام، لأبي زيد السروجي، وقد رآه في مَغارة، يعاقر الخمر، على شِواء فاخر، بعد مقام له في الوعظ والزهد، ذرفت منه العيون، ووجلت القلوب: “يا هذا، أيكون ذاك خُبرَك وهذا مَخْبرَك”؟ أي: أيكون منك ذلك القول الجميل، وهذا الفعل القبيح؟! ولا تختلف إجابة الأستاذ، إذ يُسْأل هذا السؤال، عن إجابة أبي زيد السروجي: “مَشِّ حالك! الدنيا أكل عيش! خلِّ الطلاب ياكلوا عيش”! فتستجمع قواك البيانية، وما هديت إليه من أساليب الإقناع، لتبين منافاة هذا العمل للشرع والأخلاق، ومجافاته للمصلحة، وما في أن يكون التعليم “أكل عيش” من ضرر مبين. فيكون الجواب أن هذه إرادةُ الإدارة، ومن سار السيرة التي يستوجبها الشرع والأخلاق والمصلحة، فأعطى كل طالب ما يستحق، جرَّ على نفسه من الإدارة ما لا قبل له به، وليس من الحكمة أن يسبح عكس التيار، فمن سبح عكسه، صرعه. ويتذرع بعض الأخيار إلى ما يفعل من ذلك بذرائع، ليس فيها إلا ما يدل على قلة الوعي، كالرحمة بالطلاب، والإشفاق عليهم، والرثاء لحال بعضهم، واصطناع يد عند بعض، يوجههم بها. والغايات العظيمة لا تسوغ الوسائل الضارة، والمصلحة الخاصة لا تقدم على المصلحة العامة. وليست مضرة هذا العمل محصورة في تخريج غير المؤهلين للعمل، بل تتجاوزه إلى تربية الناس على تجاوز النُّظُم، وعدم الاعتداد بالقانون والأخلاق، وجعْلِ الأعمال تابعة لأمزجة من يتولونها، فيتصرفون فيها بما يهوون، لا بما ينبغي. وكل قوم تجاوزوا النظُم، وأخسروا الموازين، عمهم الظلم، والفوضى، والرشوة، والمحسوبية، ولم يتجهوا لشيء. والإنسان أجلُّ قدرا من أن يكون “آكل عيش”، ليس إلا، و”أكْل العيش” لا يميزه من الحيوان، وإذا ساوى الحيوانَ في همته وغاياته، لم يكن له فضل عليه. ومما يؤثر عن المسيح – عليه السلام-: “ليس بالخبز وحده يحيا الناس”. وليس “أكل العيش” وحده غايةً، يرصد لها من المال والجهد ما يرصد للتعليم. ولن ترشُد أمة لا تُبْنَى على العلم والعمل، وعلو الهمة، والاستهانة بالصعاب، وعشق الاستكشاف والتجريب والتحدي. ومؤسسات التعليم مصانع للعقول، وتكرير النفوس، وتخلية الشعوب من مُضرِّ الثقافات، وتحليتها بالنافع منها، فإذا اقتصر عملها على قتل الهمم، وإصدار رخص العمل، وترسيخ الثقافات القاتلة، وتعليق القلوب بـ”أكل العيش”، كان ضَرُّها أقرب من نفعها.
لقد غدت الشهادات هي المؤهِّلات للأعمال؛ فيجب ألا تعطى إلا على معايير صحيحة؛ فإن من أُعْطِيها عن غير جدارة بها، تولى بها ما ليس أهلا له، و”إذا أُسند الأمر إلى غير أهله، فانتظروا الساعة”. وإذا أبى التعليم أن يشتغل بإصلاح القلوب والمقاصد، وأعطى رخص “أكْل العيش” من ليس جديرا بها، كان ساعيا في قيام ساعة الأمة، بإطلاقه عليها من ليس أهلا لما يتولَّى من أمرها. ومن حكمة الله في تفاوت الناس في العقول والأرزاق أن يكون لكلِّ شأن من شؤون الحياة من يقوم به، كما قال الله – تعالى -: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا). ومن مضار “تعليم المعدة” أنْ يعطي الرخصة مَنْ لا يستحقها، كما يعطيها من يستحقها، فيسوي بين الناس فيما لا يستوون فيه؛ فيتولى الأمر من لم يُخْلَق له، فيعمل فيه بغير ما ينبغي أن يُعْمَل. وليس التعليم مهنة كالمهن التي يقتصر ضررها على أهلها، ولكنه القلب: يَدْخل على البدن من السقم بقدر ما يكون في القلب منه. وإذا كان الأطباء يقولون إن الحياة والموت في المعدة، فإن حياة الشعوب وموتها في تعليمها. وهذه البديهية التي لا تحتاج إلى نظر هي التي جعلت دساتير بعض الدول ينص على أن الإخلال بتعليمها بمنزلة إعلان الحرب عليها.
إن أزمة التعليم العربي أزمة معمَّرة، فنحن نقرأ في أدب العرب الذي كتب في النصف الأول من القرن العشرين وصفا لها، لولا أننا نعرف تاريخه، لحسبنا أنه كتب في أيامنا هذه، كقول توفيق الحكيم، على لسان حماره(في كتابه حماري قال لي، وهو صادر عام 1945 م، أي قبل 75 عاما): “وطلاَّبكم يريدون أن يجتازوا الامتحانات بغير درس، ولا يعنيهم العلم في ذاته، بل يطلبون شهادة، تغطِّي فيهم الجهل، وتفتح لهم الخزائن، وتصعد بهم الدرجات”. وما زالت أزمة التعليم كما كانت على عهد توفيق الحكيم، كأنها ضربة لازب، أو كأن إصلاحها فوق الطاقة، وحياة العرب تسوء على قدر ما يسوء “تعليمهم”.

نختبرو ولد الغوث

زر الذهاب إلى الأعلى