لماذا يفشل الطيبون في إدارة الدولة؟
لماذا يفشل الطيبون في إدارة الدولة؟
قيام الدول وانهيارها له أسبابه نواميسه، ولكن الدولة الوطنية اليوم، لا تتغير حدودها حتى في ظل حرب أهلية، لأنها جزء من توافقات دولية وإقليمية تقوم على الوضع القائم (الستاتيكو)، لكنها لا تستطيع إنقاذ نفسها من التحلل أو الفشل حين يكون ذلك من داخلها، وحينما تفكك الإتحاد السوفياتي ذهبت كل دولة في حال سبيلها لكن روسيا بقيت بل أقوى، ولذلك ظل الجنرال ديجول يكرر أنه لا يعرف إلا روسيا!
عندما زار السادات الاتحاد السوفياتي أسر إلى الكاتب هيكل وهما يمشيان في قلب الكرملين وكان يعض على البايب (الغليون): (البلد دي حا تخرب!)، تعجب هيكل وسأله بعد عودتهما إلى مصر عن كلامه فقال له: إن دولة تعرض صواريخ إس إس 20 وتعجز عن تلبية حليب الأطفال وخبز الفرن، دولة منتهية، وكانت فراسة صادقة، فقد انهار الاتحاد السوفياتي وهو في عز جبروته العسكري، وبعد مدة يسيرة لا تزيد عن عشر سنوات.
وما يزال النقاش مستمرا عن سبب ذاتي آخر هو تخاذل؟ عمالة؟ الرئيس جورباتشوف، وهل كان ضعف الرجل أبلغ في انهيار دولته من العوامل الموضوعية الأخرى؟
هنا يأتي السؤال الكبير، هل الأولى بالسلطة هو الأتقى أم الأكفأ؟ بالطبع هو الثاني وإن اجتمعت الصفتان في شخص كان “سمنا على عسل” كما يقال.
لكن لماذا نرى مجموعة سياسية حسنة النيات ونبيلة الأهداف عندما تصل إلى السلطة نجدها تفشل بسرعة ومن غير سبب ظاهر عادة إلا الضغوط الدولية، بينما تنجح جماعات أقل شعبية وبأقل مجهود.
هل يرجع ذلك إلى الجهل بنواميس العالم أم بطبيعة الدولة الحديثة، أم بقصور في فهم الاجتماع السياسي؟
لقيت صديقا فاضلا من قادة الإخوان المسلمين (من أهل الخيام) وسألته لو وصلتم إلى السلطة ما هو برنامجكم السياسي، أجاب بكل ثقة وطيبة: برنامجنا هو الإسلام! قلت له: (أرانكم افرقتو)؛ الإسلام دين وليس برنامجا لشخص ولا لحكومة، فسألني متعجبا: وكيف يكون البرنامج، قلت: البرنامج أفكار إجرائية عامة تقترحها أنت لتسيير الشأن العام بحيث يكون خطة للعمل الحكومي بعد ذلك لكن خلفيته الفلسفية يمكن أن تكون القيم التشريعية والأخلاقية الإسلامية، حسب كفاءة التحليل، ثم عليك إنتاج استراتيجية لتنفيذ البرنامج هي الإسمنت الرابط بين حقل السياسة والاقتصاد والمجتمع ولا بد لهذه الاستراتحية من إيديولوجية هي التفسير “العلمي” للواقع يقنع العموم بالأفكار التي تحملها ثم لا بد من رؤية للمستقبل وهي تصورك لما تريد للمجتمع أن يكونه وتبقى القيادة وهي مزيج من الحلم والحظ والكاريزما.
قال: أنت أكاديمي عندك فكر معقد ومتأثر بأفكار الغرب، (الأمور بسيطة و آن ذا ما هو امرطني)!
أدركت أن حسن النيات كارثة حقيقية، على صاحبه أولا ثم على تدبير الشأن العام، لأن إدارة الدولة الحديثة مغامرة حقيقية لأنها ـ في الحقيقة ـ “جمْع” بين عدة متناقضات: الرغبات الشخصية للأفراد في السلطة والعموم، وتلبية مطالب الشعب الممكنة واحترام حقوقه، وتحمل الضغوط الدولية، وأيضا تدبير الموارد المحدودة بطريقة عقلانية، وإبقاء الأجهزة السرية في أقصى حالات الفعالية والسيطرة.
1ـ إدارة الدولة ليست نزهة وتدبير الشأن العام ليس درسا أو موعظة أو كذبا وفهلوة، إنها مزيج معقد من وليس عملا بديهيا.
2 ـ الدولة الحديثة ليس جهازا إداريا أو عسكريا وأمنيا تصدر له الأوامر لتنفيذ ما تريد.
3 ـ الدولة الحديثة لا يمكنها فرض عقيدة أو أيديولوجية أو قوانين على مواطنيها إلا بالحسني وبمراعاة ما يسمى الضابط الاجتماعي وهو ربط كل قرار بما يجعله مقبولا بين المواطنين، لأنه يلبي مطالبهم ولا يناقض قيمهم وأعرافهم أو لا يشمئزون منه.
هذه القواعد غير المكتوبة هي وغيرها ضرورية لمن يريد أن يحكم لكن البعض يعتقد أن حسن النيات وبالطبع ليس سوءها مفيدا، ويكفي لنيل المطالب وتحقيق المآرب.
لا بد من مراعاة الظرف والسياق والممكن والأسهل والموازنة بين أمور الدولة السرية و واجباتها العلنية العادية، والتأقلم مع العالم بالتكيف والمرونة والمقاومة والصمود في الآن نفسه، والموازنة بين الخصوصية والكونية وبين المبادئ والمصالح.
ليس من مسؤولية الدولة أن تتدخل في القناعات الخاصة للأفراد لكن من واجبها حفظ القيم العامة لمواطنيها وذاك أساس شرعيتها، وهي أيضا ملزمة بمسايرة ما توقع عليه دوليا من غير أن تفرط في ثوابت مواطنيها ودينهم وأعرافهم، أما كيف يتمهد ذلك فتلك ملكة القيادة وهي لا تورث ولا تشترى من السوق ولا تتلقى في مدرسة.
لا يمكن تحويل المجتمع إلى كتلة متجانسة وبالمسطرة، فهو أنواع من البشر فيهم الطويل ومنهم القصير ومنهم قوام بين ذلك ومنهم العقلاء والعباقرة والأذكياء ومهم أيضا منهم أقل ذكاء وفهما وهم أيضا بشر يخطئون ويصيبون و يقومون بالجرائم والسيئات، هكذا خلقهم الله
يجب التعامل مع البشر كما هم مهما كانت مللهم وثقافتهم وسيئاتهم وأخطاؤهم ومواقفهم وأمزجتهم وأشكالهم وألوانهم، وستفشل أية سياسة لفرض قوالب فكرية أو مادية على المجتمع برمته.
لكن كل سياسة أو تنمية لا تعكس طبيعة المجتمع هي سياسة زائفة، وكل بنية فوقية لا تعكس البنية التحتية ستكون غير واقعية، وبالطبع ليس ذلك التزاما بحرفية المذهب الماركسي.
أي رئيس في أي بلد حديث يجب أن يعلم أن المواطنين هم مجموع من يحملون الجنسية ويعيشون على أراض الدولة وهم في الحقوق سواء
فالمتدين كثيرا ليس أكثر مواطنية من الأقل تدينا والمعارض ليس أقل وطنية من الموالي، والليبرالي واليساري ليسا أقل حقوقا من الإخواني والسلفي، وهؤلاء جميعا مثلهم مثل غيرهم حتى من ذوي القناعات الماسونية في حال لم يتعارض عملهم مع القيم والصالح العام.
لقد أدار الرسول صلى الله عليه وسلم كيانا معقدا من الملل والنحل وفيه المنافقون ومنع التفتيش عن نياتهم خشية أن يكون ذلك سبيلا للحكم على قناعات الناس الخاصة.
أنصح الشباب أن ينصتوا لي كي أدرسهم في “جامعة خاصة” قواعد السياسة غير المكتوبة والمضنون بها على غير أهلها و(الّي تجحدها عنكم الحكومة).
الدروس بالمجان!
الدكتور :حماه الله ولد السالم