الرحلة السعودية /الدكتور:حماه الله السالم
الرحلة السعودية
زرت العربية السعودية عدة مرات، حاجا ومعتمرا، ثم مدعوا لمؤتمرات مختلفة.
وفي كل مرة كنت كالجميع موضع تكريم وعناية، في الفنادق وخارجها والاهم أنهم ينظمون رحلة جوية لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم وأداء العمرة في مكة المكرمة وبعناية فائقة.
ولكنني أدركت البون الشاسع بين جهات المملكة بعد زيارة مدينة الرياض عاصمة بلاد نجد.
زرت الرياض مرتين أولاهما ضمن الملتقى الخليجي ـ المغاربي الذي تنظمه دارة الملك عبد العزيز مع مركز التميمي للدراسات بتونس.
في الزيارة الأولى تقدمت بورقة عن التواصل المشرقي ـ المغربي ودور موريتانيا في تاريخه الثقافي والأدبي، وحينما أنشدت قصيدة لسيدنا بن الشيخ سيديا ومطلعها (يا معشر البلغاء هل من لوذعي..) أعجب بها الحاضرون إلا أستاذا سعوديا من القصيم وكان ناقدا بصيرا وتعقب كلامي وبين قصوره، وبعد نهاية الجلسة تبين لي أنه ودود ومرح مع حدة في النقد والبحث، وأنه معجب بالموريتانيين وأدبهم وشعرهم.
كان المشاركون يجلسون في طاولة شبه مستديرة نساءا ورجلا فقالت لي الزميلة السعودية: أول مرة أجلس بين الرجال علنا؟ فقلت ولم، فقالت ممنوع، ثم عجبت من جودة خطها ودقته وكانت تكتب بالخط الرقعي، وسألتها أين تعلمت الخط، فردت قائلة: جميعنا نتعلم الخط في المدرسة حتى نتقنه، صرت حائرا وخجلا وبقيت طيلة الجلسة أغطي بيدي ما أكتب خشية أن تلاحظ رداءة خطي واعوجاجه.
وكانت المرة الثانية بدعوة من دار الملك عبد العزيز بالرياض التي يديرها د.فهد بن عبد الله السماري مستشار في الديوان الملكي حاليا.
هذه المرة كانت الدعوة لحضور مؤتمر عن حياة الملك سعود بن عبد العزيز والذي عزله إخوته في حديث مشهور.
السعودية في الحقيقة عدة دول ضمن بلد واحد، والدولة الحقيقية توجد في بلاد نجد وعاصمتها الرياض أو اليمامة كما كانت تسمى سابقا.
أما الحجاز فهو إقليم متعدد الأعراق والطوائف وتغلب عليه الصبغة الدينية، و ينظر إليه أهل نجد نظرة دونية.
مدينة الرياض مدينة كئيبة أو هكذا بدت لي وشعرت وكأنها خلية من كل ما يمت للروح بصلة!
النجديون أجلاف لكنهم أهل صدق وبعد عن النفاق، يظهر ذلك في سلوكهم مع بعضهم البعض، ومن ذلك أني كنت أتحدث مع أساتذة سعوديين وجرى بينهم جدل شديد، ثم انصرف أحدهم وبقي الآخر ينتقد زميله في غيبته ثم أمسك وقال لي سأعيد ما قلت على مسامعه لتعرف أنني لا أنافق ولا أجامل وقد فعل.
لكنني استغربت سرعة خضوعهم للخرافة و الدجل رغم تعلقهم المعلن بالتوحيد “الوهابي” الصارم، من ذلك أنني أردت الاتصال هاتفيا على الأسرة ولم يكن لدي ما يكفي من النقود، فامتنع الشاب السعودي في الاستقبال عن قبول طلبي بتحمل الغرفة باقي التكلفة، فتوكلت على الله ودخلت المخدع الهاتفي في الصالة وهو يراقب العداد وبدأت الحديث وكان مختصرا لكنه تجاوز ثلاث دقائق، ولما رجعت إليه وجدته فاغرا فاه مشدوها ومرعوبا، وقال لي العداد لم يسجل شيئا، هذا مستحيل، فانصرفت ورأيته يجمع زملاءه ويعيد على مسامعهم ما حدث، وكأنه سحر أو كرامة أو ظاهرة خارقة.
دخلنا صباحا مكتب الأمير سلمان وكان وقتها أمير الرياض وله مكانته الخاصة بين أسرة آل سعود كما حدثونا، وكان مهابا وقوي الشخصية ويتحدث بصوت عميق ومتهدج.
كان المكتب واسعا لدرجة أنك تكاد لا تسمع جليسك في الجانب الآخر، ودارت القهوة المرة، وانتظمنا في صف طويل للسلام على سموه، وكان أحد رجال المراسم نبهني على أنه إن أدخل الأمير طرف أصبعه في رأس جيب ملابسك (فتحة جيب الدراعة) فاطلب ما تشاء فقد تفتحت أمامك طاقة القدر؟ جاء دوري وصافحت الأمير سلمان وفعل الإشارة فرددت شاكرا فأعادها فكررت ذلك فأعادها ونظر إلي مستغربا، وتركت المكان للزميل الموالي، ثم لحق بي صاحب المراسم وقال كلمات فهمت منها أنني غير محظوظ أو كلمة تشبه (إنك ملعوگ).
وفي المساء جاء الأمير لخطاب عام وسلم علينا بالدور فلما صافحته قال: (ما هو باينْ انك شنگيطي!).
لم أفهم الكلمة لكن عرفت بعد ذلك أنها عبارة إعجاب، لأنهم كانوا منبهرين بقناعة وزهد الشناگطة الأوائل.
أول ما يلقاك في مطار جدة ومطار الرياض شعور بأن السعودية لا تمتلك عمالة مدربة ولم يتغلغل العصر الحديث في عقلية الشباب من الحرس والجنود والشرطة، بل تغلب عليهم مسحة البداوة وقلة الخبرة وحتى العجرفة وتنفيذ الأوامر بحرفية.
لكنك تشعر بهيبة الدولة وقوة حضورها في المجال العام وفي المكاتب الرسمية والتي لاحظت أنها لا تغلق بل تبقى مفتّحة الأبواب مع صمت مطبق، حتى أنني عندما طلبت لقاءا خاصا بالدكتور السماري خاطبني مساعده قائلا: لابد من سبب مقنع لطلب اللقاء، إذا “كنت تبّي شيْ” قلْ، لكن اللقاءات تتم وفق أجندة محددة!
جلت في الرياض ليلا وكنت برفقة جمع من المشاركين في الملتقى، ومنهم الزميلة الجامعية التي تعمل في كلية البنات بجدة ويعمل شقيقها طبيبا للأمير سلمان، ومعنا راعي المؤتمر الدكتور التميمي و ثلة من المدرسين السعوديين والمغاربيين، وتجولنا بحرية نتحدث من دون حرج ونتجول من غير قيود، رغم أن المدرّسة السعودية أسرت إلي أن هذا التجوال ممنوع لكنهم يغضون الطرف لمكانة ضيوف الإمارة.
وكانت حدثتني عن حياة الشباب في الرياض وغيرها من المدن الحديثة وأنها عالم آخر مختلف تماما عن الصورة النمطية التي تظهرها للزائر الخطابات الرسمية وشعارات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأعطت أمثلة وقصصا لا يمكن سردها.
خلال المؤتمر الثاني انقسم الضيوف إلى قسمين: نسائي في صالة خاصة وباقي الضيوف من الرجال في الصالة العامة، وكان النساء يتابعن المؤتمر عبر دائرة تلفزيونية (Video conferencing )، وحين تأتي لحظة الغداء يلتقي الجميع في مطعم واحد ويتحدثون بحرية واختلاط، أبديت استغرابي للزميلة السعودية فعلقت قائلة إن هذا عرف سائد وليس شيئا آخر.
رأيت رجلا ملتحيا من رجال الهيئة وقد ند الكحل من عينيه وهو ينظر من طرف خفي إلى الزميلة وأخرى تجلس معها في المطعم وبطريقة أقرب إلى المراهقة. فسألت الزميلة السعودية فقالت هذا شيء مرَضي في هؤلاء المشائخ للأسف.
خلال مؤتمر الملك سعود قدمت المحاضرة ولكن لاحظت أن أبناء الملك سعود وبعض أفراد عائلته من الرجال لم يعجبهم الحال، ثم فهمت أن الملك تنازل عن الملك وبفتوى من عالم شنگيطي وأن ذلك ربما كان هو مبعث الحساسية.
ومع ذلك لقيت ابنته القادمة للتو من الدنمارك وهي شابة بيضاء طويلة تلبس العباية السوداء باحتشام وكررت شكرها لي وللزملاء عن ما كتبنا عن والدها.
بعد ذلك عرفت أن الملك سعود كان ملفه معلقا وموضوعا ممنوعا من البحث والدراسة، وبعد مصالحة عائلية ربما قادها الأمير سلمان، تم رفع القيود عن تاريخه وأصبح متاحا للتناول رسميا وعلميا.
زرت السعودية بعد ذلك سنة 2011 بدعوة رسمية من وزارة الحج لكنها رحلة دينية يجب الإمساك فيها عن اللغو.
نهاية الرحلات
حماه ولد السالم