من يحكم من؟ /حماه الله ولد السالم

من يحكم من؟
السلطة مهما كان فسادها ليست لعبة وهي تمارس ضغطا نفسيا كبيرا أقسى من الضغط البدني العادي.
في مذكراته يروي وزير الخارجية السوفياتي الأسبق أندريه غروميكو قصة عجيبة كشفت له عن مدى جهل العامة بخطر وجسامة المسؤولية، وأنهم يعتقدون أن المناصب الرسمية الحساسة مجرد نزهة وسياحة.
قال أنه ذات مرة سمع مساعده الشاب يترنم ويكرر وهو يرتب شعر رأسه أمام المرآة (يقولون أن وزير الخارجية يتعب، أنا لا أراه إلا بابتسامة القط أمام الكاميرات وحوله المساعدون والرفاهية) انصرف الوزير خشية أن يحرج مساعده الشاب وكان خدوما وثقة ويعمل معه منذ أكثر من عقد.
بعد فترة طلب وزير الخارجية من مساعده البقاء في المكتب مدة ثلاثة أيام وأوصاه بعدم التسرع في أي كلام مع السفراء الأجانب وعدم إظهار أي اهتمام بكلامهم وكأنه ينصت من دون أي تأثر وأن يلخص كل شيء مهم لمجلس الرئاسة “لبريزيديوم”.
طار المساعد فرحا بالمسؤولية وبقي يومه يستقبل هذا ويودع ذاك ويقرأ ويرتب، ثم عاد إلى منزله متعبا، لكنه في اليوم الثاني أصيب بانهيار وبحمى شديدة، علم الوزير وعاد من استراحته في مزرعة بالقرب من موسكو وكان يلاطف مساعده قائلا: أنت شاب قوي البنية وأنا عجوز في خريف العمر كيف تعبت بسرعة!
مضت مدة ونسي الشاب الموضوع وذات يوم وهو في الطائرة السوفياتية الرسمية التفت إليه الوزير قائلا: أتذكر اليوم الذي كنت تحدث فيه نفسك بتولي المسؤولية أنها لا شيء وأنني أعيش حياة مرفهة، احمر وجه المساعد، فرد الوزير: لا تخجل، اعلم يا ولدي أن ذاك هو الصورة الخاطئة لدى عامة الشعب عن عملنا وأننا نعيش في رفاهية وسياحة وكأن عملنا سهل وعادي، والحقيقة أنهم لا يعلمون أننا نحمل أسرارا تنوء بحملها الجبال ونتحمل ضغوطا نفسية يمكن أن تؤدي بالإنسان إلى الجنون، لكننا تعودنا هكذا عمل ونتحمل الآلام بصعوبة من أجل الوطن، ولو كنت أزيد ابتسامة القط الشهيرة قليلا لما وجدت والداتك في الريف كسرة خبز واحدة.
يعتقد الكثيرون أن الرئاسة نزهة وأنها حياة من الرفاهية والطمأنينة، بينما هي العكس من ذلك هم وغم وتعب وضغط نفسي وعمل شاق، هذا في حالة من يتحمل المسؤولية بجدية وكفاءة.
أما في الحالة الشكلية فالرئيس هو من يسير على أمتار مشتراة من سوق عثمان ويبستم للقادمين ويوقع أو يقرأ تقارير المخابرات.
الرئاسة في هذه الحالة يستوي فيها الجميع، لكنها ليست كذلك في حال كانت قدرة على التدبير وتقديم البدائل والموازنة بين الخصوصية والكونية وبين المبادئ والمصالح.
مهما كان الرسوخ المؤسسي والديمقراطي للدولة فإن إدارتها ليست على النحو البديهي الذي يوجد لدى عامة الناس.
الوزراء والمديرون مجرد موظفين مدنيين وليس لهم علم بكامل المشهد إنهم لا يرون الصورة الكبيرة، بل إن هنالك أخطبوطا مخابراتيا معقدا يمد أذرعه في كل مفاصل الدولة وحتى أصغر قطاع ويقوم برقابة كل شيء من البشر إلى الموارد وحتى الأفكار والشائعات.
في الأعلى توجد هيئات أخرى تدير كل شيء وتلغي وتسرج وتلحم وتأمر وتنهي وتقرر ما تشاء.
من يدير الدولة الحديثة إذا؟ إنها لجنة سرية تجتمع دوريا كل عدة أيام أو أسبوع وتحسم الرأي في كل قضايا البلد المصيرية، الرئيس مجرد منفذ أو صاحب قرار في هذا أو ذاك, وهو مسؤول أعلى لكنه ليس كل شيء.
اللجنة السرية تلك تختلف أسماؤها وطرق عملها وتنظيمها حسب كل بلد لكن جوهر عملها هو نفسه.
وحتى في تسيير الدولة فإن الملفات الحساسة لا توكل إلى من يظهر للعموم أنه معني بالموضوع، بل قد تجد رجلا في الصفوف الخلفية يحسم الرأي في ملفات في غاية الخطورة، وتجد من هو في الواجهة و له هيلمان السلطة والإدارة وهو مجرد “محگن آدرس”.
المخابرات لاسيما في مستوياتها العالية أكثر تعقيدا، فقد تكون لديها شكوك تجاه بعض رجالها الأوفياء (ولاء لنادي؟ أو موقف أو ميل معين) فيظل المعني في موقعه ويطلع على الملفات حسب مستواه العالي والمؤتمن لكنها تخفي عنه ما قد يتأثر بتلك الميول والمواقف الخاصة، من باب الاحتياط.
بعض رجال الاستخبارات من الدرجة العليا يقرؤون التقارير والملفات التي يقرؤها الرئيس نفسه، وقد يعترضون ويوافقون على ما يراه.
هيكل التنظيم المخابراتي والأمني لدينا هو تقريبا نفسه في فرنسا وفي المغرب، بينما في الجزائر تجتمع كل الأمور في يد الاستخبارات العسكرية ( DRS)
أما في ليبيا فكانت الأجهزة هلامية وكل الخيوط في يد القذافي وهو حذر ولا يثق في النظم الحديثة ولذلك يحتفظ لنفسه بدهاليز وطرق زئبقية وبعض التصرف يبقى في يد اللجان الثورية ولاسيما عبر مكتب الاتصال الخارجي، أما المخابرات العامة فكانت موكلة إلى رجل الثقة عبد الله السنوسي، بينما كان جهاز الأمن الخارجي في يد موسى كوسا في فترة معينة وكان عميلا للمخابرات البريطانية وتم تجنيده وهو طالب في أمريكا، وتم إخراجه من ليبيا بعد الثورة بعملية معقدة عبر تونس ثم ظهر في مؤتمر صحفي في بريطانيا قبل أن يحط رحله في الدوحة.
وبالطبع الاختراق ليس خاصا بدول العالم الثالث بل يطال أعلى مراتب الأجهزة الغربية، وهو ما كشف عنه ضابط ( M5) البريطاني في كتابه (صائد الجواسيس) من أنه استطاع تحديد عمالة مدير الجهاز لصالح الكي جي بي لكنه لم يستطع إثبات ذلك وظل العميل في مكانه.
صناعة القرار الوطني (القومي) أي كيف يطبخ وكيف يمكن التحكم في ردود الفعل كي لا يعرف العدو طريقة تفكير القيادة، هو السر الحقيقي اليوم في أي بلد مثل بلدنا، أما الباقي فمجرد تفاصيل يعلمها من يبيعنا السلاح والتقنية ويتحكم في موارد العالم.
وبالطبع هنالك أساليب ومؤسسات واجهة لأجهزة الاستخبارات لكن الصالح العام والقانون يمنعان الحديث عنها.

حماه الله ولد السالم

زر الذهاب إلى الأعلى