كتب معالي الوزير وسعادة السفير، الشيخ سيد أحمد ولد بابامين.
كتب معالي الوزير وسعادة السفير، الشيخ سيد أحمد ولد بابامين.
نوفنبر 1970 الى مارس 1975 في خدمة الرئيس المختار ولد داداه.
في النصف الثاني من شهر نوفمبر 1970، وأنا في حامية أفديرك وبينما كنت داخل الثكنة في حصة تدريب على إستخدام الرشاش 12,7مم، إستدعاني قائد الوحدة، النقيب أنيانكَ إبرا دمبا في مكتبه ودون أن ينبس ببنت شفة، أعطاني برقية رسمية من قيادة الأركان تخبره بإحالتي إلى كتيبة أمن القيادة العامة في أنواكشوط، بصفة مرافق عسكري لرئيس الجمهورية. هنأني القائد على إختياري لهذه المهمة التي قال إنها تشريف لكنها حساسة للغاية.
ومع أني لم أكن أتصور أبدا أن أكلف بهذه المهمة إذ كنت أظنها حكرا على ضباط أكثر تمرسا مثل النقيب بوي هارونا الذي كان يشغل المنصب آنذاك، إلا أني خامرني شعور خفي بالرضى لايشوبه إلا التخوف من ألا أكون على مستوى التحدي.
إن وظيفة المرافق العسكري لرئيس الجمهورية التي أصبحت موجودة في جميع البلدان تقريبا، كانت في الأصل، في تقاليد الجيش الفرنسي التي ورثنا منها بعض المسلكيات، مهمة تسند الى فرسان أفذاذ يكلفهم قادة الألوية بتوزيع أوامرهم ومراقبة نظام الجنود وأمور الإدارة.
أما اليوم فإن الضابط المرافق العسكري لرئيس الجمهورية عندنا وعند غيرنا يكون ملازما لهذا الأخير كظله ويوفر له خدمات عامة وفي بعض الأحيان يقوم بتوصيل أوامره.
بعد أقل من أسبوع من تلقي رسالة تحويلي كنت في أنواكشوط، في مكتب الرائد محمد محمود ولد الحسين، المعروف بحمود ولد الناجي، قائد أركان الجيش الوطني ليطلعني على محتوى مهمتي الجديدة. وقد أخبرني أنها تتطلب مؤهلات خاصة مثل أناقة المظهر ولين العريكة والحضور الجسدي والذهني الدائمين والكتمان إلخ. لم أكن أعتبر أنني أتمتع بهذه الخصال لكن تعدادها من قبل قائد الأركان حفزني على بذل قصارى جهدي كي أكون أهلا لهذه المهمة الجديدة والجسيمة.
كان من المقرر أن أبدأ عملي يوم السبت 28 نوفمبر 1970 في الرئاسة حيث وصلت عند الساعة السابعة و45 دقيقة برفقة النقيب هارونا بوي الذي سأخلفه وهو أحد أوائل ضباط جيشنا الوطني كما أنه ممن شاركوا في حرب الهند الصينية ضمن الجيش الفرنسي.
يمكنك أن تتخيل مئات الأسئلة التي كنت أطرحها على نفسي حول كيف يجب أن أعمل كي أكون في مستوى هذه المهام الجديدة وأن أتصرف بشكل صحيح، في هذا العالم الجديد الذي كنت أخشى أن يكون راقيا وخانقًا جدًا بالنسبة لي.
لكن على العكس من ذلك، فقد طمأنني الرئيس المختار بأريحيته وبساطته منذ أول إتصال لي معه.
عززت هذا الشعور الأول الطبيعة المتواضعة للمنزل الذي كان يعيش فيه الرئيس: فيلا صغيرة، نصف مساحة منزل مدير ميفرما (اسنيم الحالية) في ازويرات حيث كنت أعمل سابقًا. كان هذا المنزل يبعد عشرات الأمتار مما يفترض أن يكون القصر الرئاسي، الذي لم يكن متواضعًا جدًا فحسب، بل كان أيضا مخصصا لحفلات تقديم أوراق إعتماد السفراء الأجانب ولإقامة رؤساء الدول الذين يزورون بلدنا. تم تركيب أول مكيف هواء في هذا القصر بمناسبة زيارة الملك فيصل عاهل المملكة العربية السعودية رحمه الله عام 1971.
إن أسلوب حياة الأسرة الرئاسية، وطبيعة زوارها من أقارب وأصدقاء موريتانيين في كثير من الأحيان أو أجانب نادرًا، إن لم يكونوا تلاميذ شباب، أبناء إخوة أو أبناء أخوات الرئيس، سريعا ما طمأنني على بساطة وإعتيادية هذه الأماكن التي كنت أعلم أنها في بلدان أخرى ليست في متناول الجميع.
بعد أن قدمني سلفي بصفة سريعة لرئيس الجمهورية وهو يغادر مقر إقامته، رافقتهما الى مكان مراسم رفع العلم التقليدية التي إفتتحت إحتفالات الذكرى العاشرة لإستقلالنا الوطني. وأعقب رفع العلم عرض عسكري وحفل تكريم بالميداليات حضره ممثلو جميع الهيئات الرسمية وكذلك جميع رؤساء البعثات الدبلوماسية والقنصلية المعتمدين لدى بلادنا. كان العرض العسكري في ذلك اليوم تحت قيادة النقيب اسويدات ولد وداد، رحمه الله وهو الآخر أحد الرواد وضابط شجاع من الجيش الوطني.
عند العاشرة صباحا ألقى رئيس الجمهورية أمام الجمعية الوطنية الخطاب التقليدي الموجه إلى الأمة على شكل تقرير سنوي عن نشاط الحكومة والإنجازات المختلفة التي حققتها الدولة سواء كانت إكتملت أو ما زالت قيد التنفيذ. وكان من المقرر أن يتواصل البرنامج بتدشين مشاريع جديدة، وبعد الظهر، إنزال المظليين جنوب منطقة مطار أنواكشوط القديم على ماكان يسمى في ذلك الوقت بـ ” كثيب المظليين”.
كان يتصدر تدشينات الذكرى العاشرة هذه، تدشين طريق أنواكشوط -أكجوجت، الذي إكتمل العمل فيه، والذي كان يشكل، إلى جانب طريق أنواكشوط -روصو (203 كيلومتر) الذي أنجز منذ سنتين، المحورين المسفلتين الوحيدين في بلد مساحته مليون وخمسة وثلاثين ألف كيلومتر مربع.
على عكس البلدان الأخرى التي إستعمرتها فرنساسابقًا، وأنشأت فيها بنية تحتية طرقية مقبولة إلى حد ما، لم يكن في موريتانيا كيلومترا واحدا من الأسفلت في 28 نوفمبر 1960، يوم حصولها على السيادة الوطنية.
خلال الفترة التي أمضيتها في خدمة الرئيس المختار ولد داداه، حضرت أربعة إحتفالات أخرى مماثلة في الجمعية الوطنية بمناسبة ذكرى الاستقلال الوطني. واحد منهم كان مميزا لأهميته السياسية والاقتصادية لبلدنا. يتعلق الأمر سنة 1974 بتأميم شركة مناجم الحديد الموريتانية (ميفرما) التي أصبحت الشركة الوطنية للصناعات المنجمية (اسنيم). وقد سبق ذلك في عام 1973، تداول العملة الوطنية، الأوقية، التي تم إنشاؤها رسميًا في شهر يونيو من نفس السنة.
كان هذان القراران جريئين ويجسدان رغبة السلطات الوطنية في الإستقلال السياسي والاقتصادي. فمن ناحية، حررا بلدنا من الهيمنة المالية التي تمارسها القوة المستعمرة السابقة على بلدان منطقة غرب إفريقيا، التي كناننتمي إليها، من خلال عملة الفرنك الإفريقي، ومن ناحية أخرى، أكدا رغبتنا في ممارسة سيادتنا الكاملة على إستغلال مواردنا الطبيعية، إذ كان في ذلك الوقت الحديد والأسماك يشكلان أهم ثروات البلد، و كانت حتى ذلك الحين تستغل أساسا من قبل الشركات الأجنبية الكبرى ولصالحها.
ستستمر خدمتي مع الرئيس المختار حتى بداية مارس 1975، أي 4 سنوات و3 أشهر، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف ونصف متوسط مدة الإقامة لكل من الضباط الثمانية الذين سبقوني في هذه الوظيفة منذ عام 1960.
خلال هذه الأشهر الـ 51 جبت معه جميع. ولايات بلادنا ورافقته في زياراته العديدة إلى جميع الدول العربية تقريبًا، وأكثر من ثلاثين دولة إفريقية، ومعظم الدول الأوروبية والولايات المتحدة وكندا واليابان وباكستان.
كما نرى، سيكون من نافلة القول إن الرئيس المختار سافر كثيرًا حول العالم خلال هذه الفترة، لكنني كنت في موضع يخولني أن أشهد أنه كان دائمًا في أقصى درجات التقشف لنفسه وللذين تشرفوا بمرافقته خلال هذه الرحلات، حيث ما فتئ يرفع صورة موريتانيا عالية ويخدم القضايا العربية الإفريقية الكبرى (القضية الفلسطينية، تصفية الإستعمار في إفريقيا)، ولاسيما أثناء رئاسة بلادنا لمنظمة الوحدة الأفريقية، سنتي1971-1972.
سواء كانت أسفاره في الواقع زيارات دولة أو زيارات عمل أو صداقة أو حتى الرحلات الطويلة عبر العديد من البلدان للدفاع عن القضايا الرئيسية المتعلقة بتصفية الإستعمار، والتي إستمرت إحداها أكثر من ثلاثين يوما متتالية، كان الرئيس المختار يسافر دون أي حارس أمني مقرب وبدون خادم، فارضا على نفسه دائمًا، وعلى جميع الوفود التي ترافقه، نظاما جافا من حيث ما يسمى “بنفقات المهمة”. كان هناك فقط مبلغ مالي زهيد يُعهد به إلى شخص من حاشيته المباشرة يجعل من الممكن، إذا لزم الأمر، دفع تكاليف الإقامة والتموين لأعضاء هذه الوفود عندما لم يكن يتكفل بها البلد المضيف، بالإضافة إلى الإكراميات المتواضعة التي تقدم لموظفي خدمة الفنادق، وقد يتم إستخدام هذا المبلغ أيضًا، من وقت لآخر، لمساعدة مواطنين، طلاب أو غيرهم، يواجهون مشاكل في البلدان المزورة.
على أي حال كان الرئيس المختار يتأكد أن أي مبلغ أنفق يتم تدوينه وتبريره بشكل منهجي في بيان النفقات، الذي يصدق على مطابقته بنفسه بتوقيعه الخاص، قبل إرساله إلى الخزينة العامة، مصحوبا، عند الإقتضاء، بما تبقى من هذه المبالغ، مقابل إبراء الذمة.
وإذا وقع أبسط تجاوز في تسيير هذه المبالغ تتم معاقبة مرتكبه بشكل منهجي من خلال رسالة إشعار رسمي موقعة من طرف الرئيس شخصيا موجهة إلى صاحب هذا التصرف للمطالبة بتسديد النفقات غير المبررة.
وهكذا، في صباح أحد الأيام، قبل ستة أو سبعة أشهر من مغادرتي وظيفة المرافق العسكري، وعشية رحلة كنا سنقوم بها إلى تونس، إستدعاني مدير ديوان الرئيس، عبد العزيز ولد أحمد، في مكتبه ليخبرني أن الرئيس قرر أن أصبح أمين صندوق الوفد وأنه كان علي الذهاب إلى البنك المركزي لإستلام القيمة المقابلة لمبلغ أربعمائة ألف أوقية من شيكات السفر.
طلبت بإلحاح من مدير الديوان أن يبلغ شكري للسيد الرئيس على ثقته ولكني أطلب منه أن يعفيني من هذه المهمة لأنه، مع راتبي الشهري البالغ 16000 أوقية، والذي كنت غالبًا ما أصرفه قبل الخامس من الشهر، قد لا يكون من الحكمة إئتماني على هذه المبالغ.
بعد الظهيرة، إتصل بي عبد العزيز مرة أخرى ليخبرني أنه أبلغ الرئيس بما قلت، لكن الأخير لم يرغب في سماع أي شيء، وبالتالي كان على الذهاب إلى البنك لإستلام المبلغ الذي حدثني عنه في الصباح.
قمت بذلك بدون حماس، وأنا أطرح على نفسي هذا السؤال المزعج: كيف وأين سأتمكن من الإحتفاظ بهذه المبالغ التي لا يمكنني تعويضها في حال ضياعها أو سرقتها ؟
في اليوم التالي حوالي الساعة الواحدة ظهرا و بعد وصولنا إلى المنستير في تونس، وبعد إستقرار الرئيس في جناحه بالفندق، أوقفني هذا الأخير للحظة ليقول لي: ياملازم، عزي (الإسم الذي كان يلقب به عبد العزيز ولد أحمد) أخبرني عن مخاوفك بشأن إدارة النقود لكن إطمئن، ثقتي تامة وكل ما أطلبه منك، كما طلبت ممن سبقوك، هو ، فيما يتعلق بالأموال العامة ، أن تزودني في كل مرة ببيان معضد للمصاريف التي تم إجراؤها، والتي يجب أن أصدق عليها، وإذا لزم الأمر، أن تأتي بباقي المبلغ، لتستلم إبراء ذمة من الأمين العام للخزينة. شكرته مرة أخرى على ثقته ووعدت ببذل قصارى جهدي للإمتثال لهذه التعليمات.
خلال فترة مهمتي مع الرئيس المختار ولد داداه ظلت بلادنا، على الرغم من تواضع مواردها وبنيتها التحتية للإستقبال بشكل خاص وجهة مميزة لزيارات رسمية عديدة ليس فقط من رؤساء الدول العربية و الإفريقية ولكن أيضًا من الضيوف البارزين الآخرين من ملوك وأمراء ورؤساء من جميع أنحاء العالم.
ومع إحتمال نسيان البعض، سأذكر من بين الذين زاروا موريتانيا خلال السنوات الأربع والأشهر الثلاثة التي قضيتها مرافقا عسكريا للرئيس، الملوك والرؤساء التالية أسماؤهم: الملك فيصل ملك المملكة العربية السعودية، الملك نورودوم سيهانوك من كمبوديا، الأمير مولاي عبد الله من المغرب، الرؤساء بومبيدو من الجمهورية الفرنسية، سنغور من السنغال، سيكو توري من غينيا، ديوري هاماني من النيجر، هواري بومدين من الجزائر، بورقيبة من تونس، القذافي من ليبيا، زايد بن سلطان آل نهيان من الإمارات العربية المتحدة، جوون من نيجيريا، موبوتو من زائير، بونغو من الغابون، أهيدجو من الكاميرون ، نجوابي من الكونغو برازافيل، أميلكاركابرال رئيسPAIGC وموسي تراوري رئيس مالي.
كشاهد عيان على هذا العمل، خلال هذه الفترة، من الواضح أنني لا أنوي ولا أتوق إلى تقييم العمل السياسي والاقتصادي والثقافي و الإجتماعي الهائل الذي تم القيام به في سياق تاريخي صعب، من قبل هذا الرجل ورفاقه المؤسسين، الذين أنتهز فرصة هذه الشهادة لأحييهم بإحترام.
ستكون ملاحظاتي حول هذه الفترة بشكل أساسي تلك الخاصة بـالمرافق العسكري السابق وستخصص ببساطة لإستحضار وتقاسم بعض الذكريات البسيطة أو الإنطباعات أو الصور أو المشاهد أو المواقف التي يمكن أن تفيد ولو قليلاً، أولئك الذين لم تسنح لهم الفرصة للتعرف عليه، في جوانب معينة من طبيعة هذا الرجل العظيم الذي هو الرئيس المختار ولد داداه: عن دفئه الإنساني، بساطته، رزانته، تقشفه، روحه التوافقية ولكن أيضا عن صرامته، من بين شيم أخرى.
يجب أن أعترف أولاً أنه خلال السنوات الأربع والثلاثة أشهر التي أمضيتها في وظيفة المرافق العسكري هذه، كنت دائما اشعر أني في خدمة أخ أكبر، أو أب متواضع بقدر ما هو طيب، أكثر من رئيس الجمهورية. على سبيل المثال، خلال رحلاتنا العديدة وكلمالم يتضمن برنامج الزيارة عشاء أو غداء رسمييْن، كنت أتناول وجباتي ببساطة مع الرئيس المختار وحدنا أو بحضور أعضاء الوفد الآخرين.
إلى جانب الموضوعات الآنية المفيدة دائمًا، والتي تتم مناقشتها بشكل عام في هذه الفرص، كان العشاء أو الغداء في كثير من الأحيان يشكل لحظات من الإسترخاء والود بفضل حرية التعبير وطبيعة الموضوعات المريحة التي كان الرئيس المختار كثيرا ما يقدمها بنفسه.
في هذا السياق، أتذكر عشاءً قد تحدثت عنه كثيرًا، ذات مساء في سبتمبر 1971، أثناء رئاستنا لمنظمة الوحدة الأفريقيةOUA.في ذلك المساء كنا نتناول العشاء معه في الجناح المخصص له في فندق والدرف استوريا قد بدا لي العشاء وكأنه لن ينتهي لشدة إستعجالي على أن يلتحق أعضاء الوفد الآخرين بفندقهم سوميت المواجه. لقد كنت بالفعل متلهفا على أن أبقى بمفردي مع المختار لتبرير عدم تنفيذ أمر كان قد أعطاني إياه قبل بضع ساعات، في واشنطن، في غرفة الصالون البيضاوي بالبيت الأبيض، حيث تم عقد إجتماع بين وفد من الإتحاد الإفريقي الذي كان يرأسه ووفد أمريكي برئاسةالرئيس نيكسون.
ولرغبته الشديدة في اللباقة، قرر الرئيس المختار قصر الحضور في هذا الإجتماع، الذي كان من المقرر أن يتناول قضية تصفية الإستعمار الحساسة للغاية، المتعلقة بروديسيا، فقط على خمسة وزراء خارجية أفارقة رافقوه في هذه المهمة، منهم حمدي ولد مكناس وزير خارجية بلدنا.
إستقبل وفد منظمة الوحدة الإفريقية في البيت الأبيض من قبل وزير الخارجية رودجرز، وكان يجلس مع الوفد الأمريكي في الغرفة البيضاوية في إنتظار وصول الرئيس نيكسون. كنت جالسًا في الخلف مع ضابط أمن أمريكي.
أشار إليّ الرئيس المختار أن أقترب منه ليخبرني أنه يمكنني الإنضمام إلى أعضاء الوفد الآخرين الذين كانوا في صالة مجاورة. إلا أنني عندما أدرت ظهري له، وجدت نفسي وجهاً لوجه مع الرئيس الأمريكي الذي دخل لتوه الغرفة من باب داخلي وصافحني بحرارة، قبل أن يذهب إلى مقعده. أردت الخروج مسرعا، لكنني تلقيت دعوة صارمة للجلوس من زميلي الأمريكي الذي لم يكن علي علم بالأمر الذي أعطاني الرئيس للتو. كان عليَّ حضور هذا الإجتماع رغم أنفي.
لذلك يمكن للمرء أن يتفهم نفاد صبري لأكون وحدي مع الرئيس لأشرح له الأمر. ولحسن الحظ، ولدهشتي العظيمة والسارة، لا يبدو أن شيئًا من هذا المشهد قد فات هذا الأخير.
وبالفعل ومن أجل تلطيف أجواء العشاء كالمعتاد، تحدث الرئيس المختار عن الموضوع وقال مخاطبًا أعضاء الوفد الذين لم يحضروا هذا الإجتماع في واشنطن، في الغرفة البيضاوية: ماأصدق المثل الشعبي الشائع “اخير المكتوبال من الكاحزاله”: في وقت سابق، طلبت من الملازم أن ينضم إليكم، لكنني رأيت أنه عندما أراد الخروج تشبث به علج منعه بصرامة من القيام بذلك.
لم يسعني إلا الرد بالقول: شكرًا لك سيدي الرئيس على التسرية عني لأنني كنت مستعجلا على إنتهاء العشاء حتى أتمكن من تبرير تصرفي، لكنني سعيد أنك رأيت كل شيء.
في هذه الرحلة، وهي الأطول التي قمت بها خلال هذه الفترة، في خدمة الرئيس المختار أثناء رئاستنا لمنظمة الوحدة الإفريقية، وقد إستمرت أكثر من ثلاثين يومًا لتنتهي في إيران حيث كان من المقرر أن نحضر أعظم إحتفال رأيته في حياتي: الإحتفال بالذكرى الـ 2500 لميلاد سيروش الثاني العظيم، الذي نظمه شاه إيران محمد رضا بهلوي في شيراز في المواقع الأثرية في باسارجاديوبرسيبوليس.
تمت دعوة أكثر من ستين ملكًا أو رئيس دولة أو حكومة إلى هذا المهرجان وتم إيواؤهم في معسكر ضخم من خيام الحرير.
بعد المأدبة التي تتألف من 600 مقعد والتي أقامها الشاه تحت خيمة ضخمة أقيمت على شكل ثعبان، أعقبها مشهد رائع من الأصوات والأضواء على أنقاض مدينة برسيبوليس، كان على الضيوف في هذا الحفل الحضور في اليوم التالي، 15 أكتوبر، 1971، ولعدة ساعات لمشاهدة عرض عسكري تم فيه إستحضار الجيش الفارسي، من زمن سيروش الكبير إلى عهد البهلويين.
لقد أوغل منظمو هذا العرض في جعله أقرب ما يمكن إلى الواقع، بما في ذلك إعادة تشكيل دبابات وسفن الحقب المعنية وحتى أن الجنود الذين شاركوا في هذا العرض الأسطوري نموا على مدى سنتين لحاهم وخاصة شواربهم العملاقة ليشبهوا الجنود الفارسيين القدامى.
على الصعيد المالي، لا بد أن هذا الإحتفال كلف عدة مليارات من الدولارات، الأمر الذي أثار إنتقادات حادة للشاه، وأتذكر صحيفة فرنسية قالت في ذلك الوقت إن أكثر من 500 مليون دولار تم إنفاقها فقط للسماح بالبث العالمي لهذا الحفل ولضمان اتصالات الهاتف، في صحراء شيراز وبرسي بوليس لجميع ضيوف إيران.
فماأبعد هذا من أسلوب حياة رئيسي !
في الواقع أن تواضع الرئيس المختار المفرط أحيانًا جعله يقوم بأشياء لا يقبلها أحد اليوم. يتعلق الأمر على وجه الخصوص بالغياب التام حوله لأدنى حد من الوسائل الأمنية، سواء داخل البلاد أو أثناء رحلاته العديدة إلى الخارج، الشيء الذي كان يتأسف له المرافق العسكري على وجه الخصوص.
كانت تدابير الأمن الوثيق في أنواكشوط تقتصر على دركي يرتدي الزي المدني وعريف من الشرطة، كانا قبل كل شيء رفيقين قديمين، وأوفياء للرئيس. (أحمد ولد أنجاك، الذى درس معه في مدرسة بوتلميت الإبتدائية، وكان كثيرا ما يمازحه لفراره من الفصل الثاني إبتدائي، تم تجنيده كرجل درك ولكنه كان دائمًا يرتدي ملابس مدنية. كان يحمل ملفات الرئيس بين المكتب والمنزل و يداوم في قاعة الإنتظار.
أما في نزهاته المسائية الخاصة والنادرة، فكان المرافق العسكري يخبر بها العريف محمد عبد الله ولد ابريهم، قبل ساعات من وقتها، وغالبًا ما تكون لتناول العشاء في منزل أحمدو ولد محمول إبراهيم، إبن خاله وزوج أخته أمامة.
يمكن أن يقال إن هذا الوضع يقترب من الإهمال، وأنه كان يجب على كبار المسؤولين الآخرين أن يفرضوا التدابير الأمنية المناسبة عليه، لكن تغيير رأي الرئيس المختار لم يكن بالأمر السهل.
في مجال الصرامة المعنوية والمادية، كان الرئيس المختار علي درجة من التقشف والزهد تقترب من إزدراء المال.
في هذا المجال، أتذكر أنه في عام 1972 وفي إطار رئاستنا لمنظمة الوحدة الإفريقية، إستخدم طائرة اليوشين 18 التابعة للخطوط الجوية الموريتانية لنقل وفدنا إلى نيروبي لحضور التدشين الرسمي المعرض الأول لعموم إفريقيا الذي نظم في العاصمة الكينية من 23 فبراير إلى 3 مارس 1972. ولما كانت إقامتنا ستستمر عدة أيام، قرر الرئيس إعادة الطائرة حتى لا يتسبب في خسارة كبيرة للشركة التي تستخدم طائرتها على بضعة خطوط خارجية. واجه وفدنا والرئيس نفسه مشكلة في العثور على طائرة تقلع من بلدة “مبالا” التنزانية الصغيرة حيث إضطررنا إلى قضاء يوم أو يومين، في ضيافة الرئيس التانزاني. وهكذا كانت عودتنا إلى أنواكشوط ستتم في ظروف لا تصدق.
بعد بحث مضن، تمكنا فقط من الحصول على طائرة صغيرة للإيجار، لاتسع سوى سبعة ركاب، وقد إضطر الرئيس، الذي لم يكن جدول أعماله يسمح بالإنتظار، إلى السفر فيها صحبة عقيلته ووزير الخارجية، والأمين العام لرئاسةالجمهورية، وإثنان من الفنانين الذين رافقونا إلى المعرض وأنا.
تضمنت خطة رحلتنا توقفا أولا في برازافيل (الكونغو)،وثانيا في لاغوس (نيجيريا)، وثالثا وأخيرا في فريتاون (سيرا ليون) قبل الوصول إلى أنواكشوط.
عند وصولنا، حوالي الساعة 12 ظهرًا، فوق العاصمة الكونغولية، وجدنا البلاد ورئيسها “نجوابي” وجيشه يتصدون لمحاولة الإنقلاب الشهيرة التي قام بها الملازم دياوارا.
تلقي الرئيس “نجوابي” الرسالة التي بعثها طيارنا إلى برج المراقبة، يبلغه بوجود الرئيس المختار على متن طائرته وأنه يطلب إذن الهبوط. أخبرنا الرئيس الكونغولي فيما بعد، أنه في البداية إعتقد أنه كمين يهدف إلى إستدراجه إلى المطار لتسهيل القضاء عليه. ورغم حالة التأهب القصوى، قرر في نفس الوقت الذي أذن فيه للطائرة بالهبوط، إرسال وحدة صغيرة من الجيش بقيادة ضابط سام لضمان إستقبالنا وأمننا.
وهكذا، لم ينضم إلينا الرئيس ماريان نجوابي على المدرج إلا بعد التأكد من أن الأمر ليس خدعة.
مكثنا لتناول طعام الغداء، في حالة الحصار هذه حيث منحني وجودنا إنطباعًا بأننا قد سرينا شيئا ما عن مضيفنا، وكان منزعجًا جدًا عند وصولنا، لكن جيشه إنتهى به الأمر إلى إجهاض محاولة الإنقلاب.
غادرنا برازافيل إلى لاغوس حوالي الساعة 4 مساءً، ووصلنا هذه الأخيرة حوالي الساعة 6 مساءً.
وجدنا أنه قد تم إغلاق مطار العاصمة النيجيرية أمام حركة الطيران الدولية إذ كانت تجري فيه أعمال تجديد ولم يتمكن الطيار من الهبوط إلا بعد مفاوضات طويلة أشار فيها إلى وجود الرئيس على متن الطائرة ونوع طائرته.
ولكن نظرًا لأنه كان يوم أحد ولم يتم إشعار أي شخص بمجيئنا، ولا حتى سفيرنا في لاغوس أحمد ولد أج، فقد إضطررنا إلى الإنتظار أكثر من ساعتين ونصف في المطار قبل أن نرى الرئيس “غوون” يأتي برفقة جميع أعضاء حكومته محاطًا بعدد كبير من العربات المدرعة بالإضافة إلى سائقي الدراجات النارية. وصلنا إلى لاغوس في وقت متأخر وتناولنا العشاء وقضينا الليل في قصر كانت رطوبته، إلى جانب الحرارة مزعجة جدا.
في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي، كنا في المطار مع الرئيس النيجيري والوفد المرافق له وقد جاؤوا لتوديع الرئيس المختار ولد داداه.
أقلعنا بعد نصف ساعة ولكن بعد ثلاثين دقيقة من الرحلة، جاء مساعد الطيار ليبلغني أن مضخة أحد محركاتنا تعطلت وأنه سيتعين علينا العودة إلى لاغوس، على إرتفاع منخفض، لإصلاحها. نقلت المعلومات إلى الرئيس والوزير والأمين العام، لكني لم أخبر فنانينا: سدوم ولد آب وتحانه منت أعليَّ، ابنة أخ المطربة الذائعة الصيت منينه بنت أعليّ.
عدنا بأمان إلى مطار لاغوس لله الحمد حيث إنضم إلينا الرئيس “غوون” ووفده مرة أخرى بسرعة كبيرة حيث كان علينا قضاء ساعتين تناولنا فيهما الغداء قبل وصول طائرة الخطوط الجوية النيجيرية أرسلت من” كانو” في وسط البلاد لتقلنا إلى أنواكشوط.
عندما نزلنا من طائرتنا الصغيرة، سألني سدوم ولد أب: أليس هذا هو المطار الذي غادرناه سابقًا؟ أجبته: بلى، هذا هو نفسه وقد عدنا إليه لأننا واجهتنا مشكلة صغيرة مع أحد المحركات ويتابع فناننا: آه نعم، ولهذا السبب لاحظت وجود الدخان يتصاعد من النافذة المجاورة لي. في الواقع، كان تبخرًا سببه الفقدان المفاجئ للإرتفاع والفرق الناتج في درجة الحرارة هو ما إعتقد سدوم خطأً أنه دخان.
عودة إلى تقشف الرئيس المختار، لم يكن حتى منتصف السبعينيات يسافر مصحوبًا بخادم شخصي في رحلاته إلى الخارج. مما جعله يحضر حقيبته بنفسه في معظم الأوقات.
وكما قلت أعلاه، فإن هذا الرفض للحد الأدنى من الخدمة في مجالات أمن وراحة رئيس دولة، والذي يمليه دون شك تواضعه وبساطته، كان من أكثر ما يزعج مرافقيه العسكريين الذين كانوا يرون من حولهم كم كان الرؤساء الآخرون مترفين.
وفي ما يتعلق بعلاقته بالمال، لم يفعل الرئيس المختار قط شيئًا لإمتلاكه، على عكس بعض أقرانه في ذلك الوقت (ستكون المقارنة مع نظرائه اليوم إهانة)، لكنه رفض بشكل منهجي الهبات السخية من بعض نظرائه رؤساء الدول، بما في ذلك الشيكات الكبيرة وصناديق الأوراق المالية المرسلة إليه نقدًا والتي كانت تُدفع دائمًا إلى الخزينة العامة. على سبيل المثال، تم إستخدام شيك باسمه أرسله رئيس غابون” بونغو” لشراء طائرة “كرفل ” لأسفار الوفود الرسمية إلى الخارج.
في نفس الوقت الذي كانت فيه هذه الصرامة تجاه نفسه، كان الرئيس المختار صارمًا للغاية مع وزرائه ومعاونيه الآخرين، الذين كان يعاقب زلاتهم في هذا المجال بشكل منهجي. كم مرة رأيناه يرسل خطابات إشعار رسمي تطالب بتبرير مبالغ مالية لو سمع بها آكلو الميزانية اليوم لماتوا من الضحك لشدة تفاهتها.
لم يقبل الرئيس المختار أبدًا هدايا من رجال أعمال أجانب. في هذا الصدد، أتذكر حالتين بحجم متفاوت تمامًا، وقد شاهدتهما خلال رحلتين إلى اليابان واليونان على التوالي.
في طوكيو، على هامش مهمة جاء فيها على رأس وفد من منظمة الوحدة الإفريقية للدفاع عن قضية تصفية الإستعمار في الأراضي الإفريقية التي لا تزال تكافح من أجل إستقلالها، وافق دون حماس على إستقبال رئيس جمعية تعاونيات للصيادين اليابانيين، متهمين في كثير من الأحيان بالصيد دون ترخيص في مياهنا الإقليمية. لم يرفض الرئيس هدية أحضرها له الياباني فحسب، بل جمع كل الهدايا الصغيرة التي وزعها رجل الأعمال على أعضاء وفدنا الآخرين وأعادها إليه، وكانت صغيرة وبسيطة لا تتجاوز قيمتها خمسة دولارات في المتوسط.
في الفترة نفسها، في اليونان هذه المرة، كنا في زيارة عمل، مع وفد صغير، كان على الرئيس العودة إلى أنواكشوط في تاريخ محدد، على خط طيران إفريقي منتظم من باريس. قادتنا جهودنا للعثور على طائرة لإستئجارها إلى العاصمة الفرنسية إلى شركة Olympic Airways التابعة لمالك السفن اليوناني الثري أرسطو سقراط أوناسيس.
ولما علم رجل الأعمال بذلك، طلب مقابلة ليقدم فيها التحية للرئيس فرتبها له بروتوكولنا.
في نهاية المقابلة، عرض الزوج الثري لجاكلين كينيدي على الرئيس المختار الإحتفاظ، إذا رغب في ذلك، بطائرة Mystere 20 التي قررت شركته وضعها تحت تصرفنا لهذه الرحلة، وقد تم رفض هذا العرض بأدب لكن الرئيس وافق على أن تقلنا هذه الطائرة الى باريس لنلحق برحلتنا المنتظمة على متن شركة الطيران الإفريقية.
في المقابل، لم يكن الرئيس المختار معروفًا بسخاءه المالي، على عكس بعض أقرانه الأفارقة والعرب، لا من ماله الخاص، لأنه لم يكن لديه سوى راتبه المتواضع البالغ 80 ألف أوقية (400 ألف فرنك إفريقي)، ولا من الأموال العامة التي كان لا تأخذه في تسييرها الصارم لومة لائم. فالرئيس المختار لم يكن يحمل ابدا أي أموال معه أو حتى في حقيبته. في هذا الصدد، تكرر كثيرًا أن أقرضه، لإعطاء الصدقة لفقير صادفه على هامش إجتماعاته في مقر الحزب، أو في الخارج، للدفع لحلاق أو بعض النفقات الصغيرة، 500 أو 1000 فرنك إفريقي، 100 أو 200 أوقية، وربما 20 أو 30 دولارًا كان يعيدها لي دائمًا بعد أسبوع أو أسبوعين، بدون زيادة ولا نقصان، ويقول لي دائمًا: “يا ملازم، الوفاء في المعاملات المالية يُكسب الأصدقاء الأوفياء”
أكسبت الرئيس المختار حكمته البالغة وروحه التوافقية إحترام وتقدير أعظم قادة العالم، ومن باب أولى، جميع أقرانه في إفريقيا والعالم العربي حيث كثيرا ما مكنت تدخلاته السرية من تقارب المواقف المتباعدة جدًاأو حتى من إعادة العلاقات بين النظراء المتنافرين.
أذكر على سبيل المثال، مما شهدته شخصيا، حالة العلاقات المتوترة إن لم تكن المقيتة حينها بين الرئيسين “سيكو توريه”، رئيس غينيا، و”سينكور” رئيس السينغال وكان كل منهما صديقا حميماله، وقد تطلب تحسين العلاقات و رأب الصدع بينهما من الرئيس المختار العديد من الرحلات إلى داكار وكوناكري.
أسكن الله هذا الرجل العظيم في جنات خلده الواسعة.