مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل
يراعي الإسلام في توجيهاته أهمية الالتزام بالحق، فالحق أحق أن يُتّبع، فهو العدل والصدق والصواب، وما أُرسِل الرسل إلا ليبينوا الحق في مظاهره المتعددة: عبادة لله وحده، إقامة شرع الله، العدل، الرأي الصواب، الاستقامة، وغيرها.
وفي حياتنا (على مستوى الفرد والمجتمع) تهتز قيم الحق أحيانا، فهناك الإعجاب بالرأي والغرور والأنانية والطغيان والاستبداد والرضى بالباطل وعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا على مستوى الفرد، وعلى مستوى المجتمع حين يحيد عن الجادة، وحين يقدِّم غير شرع الله منهجا، وحين يُعظَّم الباطل بل يكون هناك من يدافع عنه ويستبسل في الترويج له بحجة الحرية، وهناك إشاعة الفاحشة، وهناك التعوّد على الباطل وأُلفته والتعايش معه ليكون الحق في المقابل غريبا مُستَنكَرا، وهذا الذي عبّر عنه صلى الله عليه وسلم بأن يصبح المعروف منكرا والمنكر معروفا، واستغرب الصحابة أكائن هو؟ فقال: وأكثر منه، أن تأمروا بالمنكر وتنهوا عن المعروف.
لست متشائما، ولا أحب التشاؤم، وفي المقابل لا نُهوِّل الأمور ولا نهوِّن من خطرها، فالخلل موجود قطعا، وله أشكاله المختلفة، ولا يختلف اثنان على أن هناك خللا في الأفراد والمجتمعات ربما يتمدد هذا الخلل ويصيب من الفرد والمجتمع مقتلا، وسنن الحياة الكونية التي بينها الله تعالى في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لا تتخلف أبدا، ولا تحابي أحدا، ففي غزوة أحد هُزم المسلمون وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجود مخالفة بسيطة، هي ترك الرماة موقعهم بعد أن حذرهم النبي من مغادرته، فكان ما كان، ولهذا استغرب الصحابة أنْ كيف نُهزم فقال الله في شأنهم: “أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم، إن الله على كل شيء قدير”، فلئن كان هذا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نستغرب وقوع العقوبة العامة إن تمادى الناس في عدم مراعاتهم لسننه تعالى واتباع صراطه المستقيم.
اتباع الحق ولو على حساب مصالحي الشخصية من أهم ما ينبغي الحرص عليه في الحياة، حين يتجرد الإنسان من هواه، ويقدِّم الحق، ويتكاتف الناس على المبدأ الحق، فهو الطريق قطعا إلى العزة والرخاء والمنعة والسؤدد، حين يسود العدل، ويعرف كل واحد ما له وما عليه، ويستقيم في حياته على المبدأ الحق.
أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رسالة إلى قاضيه على البصرة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، والمعروفة برسالة عمر في القضاء، قال له فيها: “من عبد الله عمر أمير المؤمنين، إلى أبي موسى الأشعري،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: أما بعد فإنَّ القضاء فَريضةٌ محكمة وسُنّة متّبعة، فافهَمْ إذا أُدْلِيَ إليك فإنه لا ينفع تكلُّمٌ بحقّ لا نفاذَ له، آسِ بين الناس في مجلسك ووَجهك حَتَّى لا يطمَعَ شريفٌ في حَيْفك ولا يَخافَ ضعيفٌ من جَورك، البيِّنةُ على من ادَّعى واليمينُ على من أَنكَر، والصُّلْحُ جائزٌ بين المسلمينَ إلا صلحاً حَرَّم حلالاً أو أحلَّ حراماً، ولا يمنعنَّك قضاءٌ قضيتَه بالأمس فراجعتَ فيه نفسَك وهُدِيت فيه لرُشْدك أن تَرجِعَ عنه إلى الحقِّ، فإنَّ الحق قديمٌ ومراجعةُ الحق خيرٌ من التَّمادِي في الباطل، الفَهمَ الفهمَ عندما يتلجلج في صدرك ممّا لم يبلغْك في كتاب اللَّه ولا في سنَّة النبيّ صلى الله عليه وسلم، اعرف الأمثالَ والأشباه وقِسِ الأمورَ عند ذلك ثم اعمِد إلى أحبِّها إلى اللَّه وأشبَهها بالحقّ فيما ترى، واجعلْ للمدَّعِي حقّاً غائباً أو بيّنة أمداً ينتهي إليه
فإن أحضَر بيّنَته أخذت له بحقّه وإلاّ وجّهتَ عليه القضاءً فإنّ ذلك أنْفىَ للشكّ وأجلى للعَمَى وأبلغُ في العُذر، المسلمون عُدولٌ بعضُهم على بعض إلا مجلوداً في حدٍّ أو مجرَّباً عليه شهادةُ زورٍ أو ظنيناً في وَلاءٍ أو قرابة فإنّ اللَّه قد تولّى منكم السرائر ودَرأَ عنكم بالشبهات، ثمّ إياك والقلقَ والضّجر والتنكُّرَ للخصوَم في مواطن الحقّ التي يُوجب اللَّهُ بها الأجر ويُحْسِن بها الذُّخر، فإنّه من يُخلِصْ نيّتَه فيما بينه وبين اللَّه تبارك وتعالى ولو على نفسه يَكْفِهِ اللَّه ما بينَه وبين الناس، ومَن تَزيَّنَ للناس بما يعلم اللَّه منه خلافَ ذلك هتَكَ اللَه سِتْره وأبدى فعله فما ظنُّك بثواب غير اللَّه في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام عليك”.
مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، هذا الخُلُق يحتاج قوة وتجردا وتضحية، طبّقها عمر نفسه حين حدد المهور، وأوقفته امرأة ونصحته، فقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر، وهو من هو، فالتصحيح ومراعاة مصلحة المجتمع على مصلحة الفرد والتراجع عن مفاهيم تناقض منهج الله ومنطق الأشياء لا ينبغي أن تبقى، بحجج تافهة أذلت الإنسان والمجتمع والأمة معا، ولهذا نحن عالة على الأمم، نستجديها ونهابها ونركن إليها، والمضحك المبكي أننا نعرف طريق العزة ونستذكر ماض تليد كنا فيه سادة الدنيا، ومع ذلك نتنكب طريق الحق، ونرضى بالتبعية والباطل ليسود.
لا بد من تغيير القناعات على مستوى الفرد أولا، ولو بما نسميه حقوق المواطنة، أننا متساوون، ولنا حقوق ولغيرنا حقوق، ولا بد من مظلة حاكمة عادلة تتوافق مع الحق وما فيه صلاح الناس، وإلا كان التناقض وبالتالي فقدان الثقة بين الجميع، ولعمر الله لهي الفوضى التي تشتت مصالح المجتمع وأولوياته، وكل يغني على ليلاه، كما هو حاصل مُستحكِم في معظم دولنا.
اليد الواحدة لا تصفّق، وتلاقي جهود الجميع كل من زاوية مسؤوليته هو الحل لكثير من مشاكلنا، ولا يدّعين أحد أنه يملك مفاتيح الفرج وحده ولو علا في مسؤوليته، خاصة حين تكون البوصلة قد انحرفت كثيرا، وحين يكون الخرق قد اتسع على الراقع.
د. محمد المجالي