المصرح به والمسكوت عنه في شعر أمحمد ولد احمد يور

يتميز شعر امحمد ولد أحمد يوره ( 1925 – 1845 ) عن شعراء عصره بمجموعة ميزات… منها.. سلاسة اللفظ و قرب المأخذ و الموسيقى الداخلية و الخارجية … مما ولد لدى المتلقي تجاوبا و تفاعلا مع شعره، مما لم يتأت لكثير من معاصريه… و أهل قطره… خاصة.. بيد أنه عاش في عصر ازدهار القصيدة الشنقيطية في مرحلة فُحولتها مع شعراء القرن الثالث عشر الهجري…
و كان لامحمد في شعره الفصيح نمطان أحدهما يتمثل في ما عُرف بشعر ( إزريكَه).. الذي لم يكن هو أبا عذرته، رغم تفوقه فيه. و قد خصص هذا اللون لشعر الإخوانيات و الغزل و الوقوف على الطلل… و من ذلك قوله:
من العار أن يبقى بعينيك مدمع
و قد لاح من بين المنارين مربعُ
و أخبرتُ أن الحقف أقوت ربوعه
و أن أضاة الثور بيداء بلقع
و لم تصغر الآذان إلا لسمعها
لما لم تكن من قبل ذلك تسمع..
أما الغرض الذي نجد امحمد يتقيد فيه بالنهج ( الجاد)..  النمط الثاني من شعره فهو غرض الرثاء… و لئن كان لامحمد في هذا الغرض أسلوبه الخاص به و مميزاته النمطية التي تخرج، تارة، عن مألوف الغرض و نمطيته…
و إذا ألقينا نظرة أفقية على هذا الغرض عند لمرابط امحمد تبين لنا أن هنالك أربع بنيات مختلفة للقصيدة الرثائية في شعره..
فمن رثاء صرف إلى رثاء ممزوج بالمقدمة الغزلية  إلى رثاء ممحض للغزل إلى غزل ممحض للرثاء…
1- الرثاء الصرف: رثى امحمد مجموعة من أعلام من وسطه الاجتماعي من وسطه الاجتماعي الإيكَيدي.. و من أشهر من رثاهم محمذ ولد حبيب ولد السيد.. الذي قال فيه رثائيته المشهورة و بدأها بقوله:
نغر بهدأة الزمن القصير
و قد حان المسير إلى المصير
و نعرض عن عوارض كل يوم
تلوح لذي البصير و البصير
و ما يغني عن العذراء شيئا
مضاجعة الحصور على الحصير
ستصرمك الغدور فصارمنها
و قل بيديَ لا بيدي قصير…
فجاءت هذه المقدمة الوعظية التي تحدثت عن حتمية الفناء و قِصر أمد الحياة.. مع ما يظهر لنا كل يوم من عوارض تلوح للمتبصر و المبصر… و لكننا نتغاضى عن ذلك فلا يجدي فينا شيئا كما لا تجدي مضاجعة الحصور عن العذراء… و يوجه بعد ذلك هذه النصيحة للإنسان بأن يصارع الغدور التي هي ( الموت)… و بين أن ذلك الاستعداد ينبغي أن يكون بيد الإنسان لا ( بيدي قصير).. و هنا استلهام لأثر من التراث العربي القديم… يعضد قوة الغدر..في قصة مشهورة من الصراع بين مملكتي الحيرة و تدمر… قيل إنها كانت في القرن الثالث الميلادي..
و ينتقل الشاعر إلى أسلوب النداء ليتخلص إلى رثاء الفقيد و الدعاء له… بقوله:
ألا يا ديمة الرحمووت أمي
فقيدا كان مُفتقد النظير
و جري من ذيولك ما يوازي
على ذي السبق و الورع الخطير
على نعم الملاذُ إذا ألمت
نوائب ذات شر مستطير…
و من ذلك أيضا مرثيته للعلامة البرا بن بكَي الفاضلي التي يقول فيها:
أصاب الزمان فما قصرا
و لم يًبق كسرى و لا قيصرا
و لم يبق ظبيا و لا ظبية
و لم يبق ليثا و لا جؤذرا
محمد صبرا فأنت الذي
جدير بمثلك أن يصبرا
أبوك البرا فاق أهل البرا
و أنت الخليفة بعد البرا..
فكان الشاعر هنا يسير على نمطية الغرض من حيث الحديث عن حتمية الفناء و مصير الإنسان الأزلي في صراعه مع الزمن و انهزامه أمامه مهما كانت عظمة ذلك الإنسان و قوته..  ليصل بعد ذلك إلى المرثي و ذكر خصاله و تفوقه على أهل زمانه و تعزية خلفه…
2 – الرثاء الممزوج بالنسيب: كانت للمرابط امحمد طريقة أخرى في الرثاء نجدها في رثائه  لمحمذ ولد بابكر ولد احجاب الفاضلي.. في قصيدته التي يقول في مطلعها:
معاهد حول البير بانت سعادها
و لم يبق إلا نأيها و رمادها..
و في رثائيته للشيخ سعد أبيه بن الشيخ محمد فاضل….. التي يقول فيها:
نواصح.. لكن ليس يًسمع قيلها
بثينة من تهوى و أنت جميلها
يمينا.. و من شر الألايا أليةً
يكون على المولي، مبينا، دليلها
لقد هيج البرق اليماني موهنا
بقايا هوى لا يُستقل قليلها
و أظلمت الأيام مذ بان بدرها
و دفاع جًلاها الرضى و جليلها…
و طفق بعد هذه المقدمة و التخلص يعدد سجايا المرثي و خصاله.. من حيث تأمينًه للنُزال و حماه الذي لا يضام و دعواته المُجابة ليختم بعظم فقده على كل الأقطار و عظمة مصاب الدنيا به…
فكانت القطعة مزيجا من غرضين قد تشكل العلاقة بينهما النشاز… و لكن يد الشاعر الصناع ألحمت السدى بين هذا و ذاك حتى رأب ثأي ذلك النشاز…
3-  الرثاء في قالب الغزل:
نتوقف في هذا الباب عند نموذجين من رثاء امحمد لأقرب الناس إليه… و ذلك في:
أ – رثائه لأمه امنيانه بنت محمد فال ولد والد ولد خالنا.. يقول فيها:
أهاذي جمال الحي مُسيا تُنوخ
و هذا غراب البين بالبين يصرخ
أ أحبابنا إنا على الهجر و النوى
نُلام على أشواقكم و نوبخ
و قد مارس الأشواق من كان قبلنا
و لكن هذا الشوق أرسى و أرسخ
حلفتُ.. و من يحلف على الزور لم يزلْ
بأشنع عار في القيام يوبخ
لئن نسخ الشيب الصبابة و الصبا
لفي القلب عهد محكم ليس يُنسخ
ذكرنا لكم بعض المرام و بعضه
مخافة تطويل عليه نلخخ..
بالفعل لم يُطل امحمد في مرام القطعة ذات الستة أبيات التي أراد بها رثاء والدته الحنون …. و لم يورد أي ذكر لها.. كما أنه لم يورد أي معنى له علاقة بغرض الرثاء، مما يجعلنا نكاد نجزم أنه أراد، عن قصد، إخفاء شعور الحزن لديه.. و الظهور بمظهر الصابر المحتسب المتجلد…
ب – رثائه لشقيقه محنض الذي لم يختلف من حيث النهج عن سابقه… يقول:
أبكِ الربوع بدمع منك منطلق
عيب الديار على من بالديار بقي
منازلٌ بدلت عفرَ الظباء بمن
قد بدلوا لي لذيذ النوم بالأرق
لما وقفتُ بربع الدار ملتمسا
سلبا لدائي بباقي رسمها الخلق
لم تسلب الدار مني الداء و استلبت
ما كان أبقاه برح الشوق من رمقي
يا نفس صبرا على ما كان من وله
فسوف يأفل نجم الحزن و القلق
و روضة اللهو أن أن يتاح لها
بعد الجفاف اخضرار العود و الورق..
ستة أبيات أخرى لم يرد فيها ذكر المرثي و لم تكد تختفي فيها حقول الغزل و النسيب… إلا ما كان من العبء المتبقي على المتخلف في الدار.. و تحمل المسؤولية بعد أن كانت متحملة عنه…
و لا ننسى هنا وهناك طغيان الثقافة العالمة في الحديث عن المنسوخ من الآي و المحكم و عقوبة الحنث في القسم إلى  القاموس الرياضي في السلب و الاستلاب…
فهذا رثاء امحمد لأقرب الناس إليه الذي يمكن أن يصدق عليه ما قاله، يوما، أحد الحقوقيبن في مرافعات أحد أشهر محامي البلد… إذ علق على مرافعة له أعجبته قائلا: ” إن مرافعاته يوجد فيها كل شيء إلا القانون”.. فكذلك رثاء امحمد لذويه يوجد فيه كل شيء إلا الرثاء!
4- الغزل في أسلوب الرثاء:
هنالك نصوص للمرابط امحمد صنفها الرواة على أنها من الغزل.. وتغنى بها المطربون… و مع ذلك طغى عليها قاموس الرثاء بجميع حقوله الدلالية من حيث التفجع و البكاء و الحنين و انصرام حبل الوصال إلى الأبد… فمن ذلك قوله:
أتمسك دمع العين و هو ذروف
و تأمن مكر البين و هو مخوف؟
تكلم منا البعض و البعض ساكت
غداة افترقنا.. و الوداع صنوف
و آلت بنا الأحوال آخر وقفة
إلى كلمات مالهن حروف
حلفتُ يمينا لستُ فيها بحانثٍ
لأني بعقبى الخانثين عروف
لئن وقف الدمع الذي كان جاريا
لثم أمور ما لهن وقوف…
لا شك أن قاموس البكاء و الحنين و الخنين واضح في هذا النص.. مما يحعله أكثر تمحضا للرثاء من غيره من نصوص امحمد.. خاصة التصين السابقين…
فالشاعر انطلق من وضعية الدمع الذروف، بصيغة المبالغة، و تحدث عن البين و الفراق…
و تنمو أفكار النص في زمن القصيدة لينقشع غبار جدلية الرحيل و البقاء عن ردود فعل منها المنطوق و منها المسكوت ( عليه) أو عنه… فيتحول الكلام المنطوق إلى كلام مرموز… أسماء أصوات أو أسماء أفعال ( Onomatopées )..  و ذلك منتهى التأثر… فمن المعلوم أن الآهات و الحنين لا تترجم بالكلام و إنما رسم لأفعال تصدر عن النفس… و في الأخير ينقلب الأسلوب القصصي إلى أسلوب القسم… الذي يعد من أقوى أساليب الخبر في علم المعاني… مما يعرف بالأسلوب الإنكاري… ليقسم صاحبه أن هنالك امورا لانقطاع لها.. فما هذه الأمور؟
لا بنبغي لنا أن نقصر ذلك على المعنى الغرامي او على بعض المفاهيم العاطفية البسيطة.. بل قد يسرح بنا الفهم إلى معنى الحديث الذي رواه أبو هريرة، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه و سلم.. و المتعلق بانقطاع عمل المرء بعد موته إلا من ثلاث منهن ولد صالح يدعو له بخير… و لذلك قد نقول إن تلك الأمور التي لا انقطاع لها و لا وقوف هي دعاؤه لأمه الفقيدة… و أن ذلك الدمع الذروف قد يكون بكاءه عليها… و أن تلك الكلمات التي لا حروف لها هي آهاته و توجعه لفقدها…
و لا شك أن امحمد، و هو من يدرك مقام الولد الصالح، لن يغفل ذلك في شعره… و مهما يكن فإن النص قد لا يكون متمحضا للغزل… و مثله في ذلك قوله:
تشوقتُ الأحبة يوم بانوا
كما اشتاق الحمام إلى الهديل
إذا سلكوا أجارع ذي سبيل
فليس إلى التواصل من سبيل
و إن أك بعد بينهم بصبر
هممتُ .. فقد هممت بمستحيل
كأن القلب من ولهِ و شوق
غداة رحيلهم لبن الرحيل..
مقطع آخر فيه شاعرية فذة و انسيابية عذبة…
تشوقٌ لأحباب بانوا.. بماذا؟ و بمن سلكوا أجارع بئر السبيل؟
مهما يكن من أمر فإن سلوك أغوار بئر السبيل أو نجوده لن يشكل كبير بيْن و لا بينونة عند امحمد… و لا يقتضي ألا يكون هنالك ” سبيل للتواصل” إلا إذا كان الراحل راحلا إلى مثواه الأخير…
و ختم بالعبارة الأخيرة التي تدل على التأثر الشديد و إظهار ذلك التأثر في كونه صار ( أفسد) من اللبن الذي كان أهله مترحلين.. ففسد روبانه لكثرة الاضطراب و الحركة…
و نتوقف أخيرا عند بيتين يتحدث فيهما عن عجزه عن إمساك الدمع و أن من أمر بذلك لم ” يأمر بمعروف”…
من يأمر الدمع في دار لمعروف
أن يمسك الدمع لم يأمر بمعروف
عار على العين إمساك لأدمعها
بالملزمين و إمساك بمعروف…
فهاذان البيتان قد يدخلان في ذات السياق مع القطعتين السابقتين…
و من هنا يمكننا أن نقرر، دون كبير عناء، أن شعر الرجل فيه من المقول و المسكوت عنه نماذج يمكنها أن تكون موضوع دراسات جادة في فهم دلالات الشعر الشنقيطي و تبرهن على ثراء هذه النصوص و عمق دلالاتها…
سيدي محمد متالي…

زر الذهاب إلى الأعلى