مع الشنافي (1) الدكتور:حماه الله ولد سالم

مع الشنافي (1)
إطار عام للحلقات
لا يحتاج محمد بن مولود بن داداه الشنافي إلى تعريف لكن الزمن دوار والرداءة التي تلف كل شيء جعلت الأعيان يتجاهلون ومحل طعن وتشويه من الفاشلين و وقد نال الشنافي قطّه من تشويه هؤلاء حتى أنهم كانوا يخوفون القادمين إليه ويشيعون عنه حدة اللسان وجلافة الطبع بل ويؤذونه بأكثر من ذلك صدا للباحثين وأولي البصائر عن زيارته والإفادة من علمه.
إنه محمد بن مولود بن داداه سليل بيتيْ الديانة والرياسة في قبيلة أولاد ابييري المشهورة والكريمة، ومن القلة الكفوءة التي قامت ببناء الكيان الموريتاني المستقل، وكان عمل واليا في الحوض أيام الاستعمار وتنقل في وظائف سامية في الداخل والخارج بعد الاستقلال، وكان في كل أطوار حياته الإدارية يجمع ويقرأ ويدون حتى حصل ثقافة تاريخية عن بلاد الصحراء الكبرى والجزيرة العربية قل نظيرها فضلا عن تضلعه من الألسنة الأجنبية القديمة والحديثة على تفاوت في ذلك.
لقيت الشنافي في بيته العامر بقرية عين السلامة في خريف 1994 وتوطدت صلتي به إلى أن توفي سنة 2012.
وكان عاش في عزلة بعد انقلاب 1978 في قريته بعين السلامة لم يبرحها إلا لماما لضرورة صحية أو عملية، قبل أن ينتقل في أخريات أيامه إلى انواكشوط بناءا على عقد مع دار الثقافة سنة 2006 استمر إلى أن توفي رحمه الله.
لم تعره حكومات العسكر أي اهتمام، رغم صعوبات العيش في تلك الفترة، ولكنه كان صبورا وقنوعا ولا يعير المال أي اهتمام، وكان ينصحني قائلا: لا تفكر في الرزق فقد مررت بضائقة شديدة بعد انقلاب 78 وكنت في إقامة جبرية، وذات مساء رأيت سيارات عسكرية تأتي للقرية فخشيت أن يكون عسكر 78 يريدون نقلي إلى الداخل بعيدا عن والدتي وكانت مريضة فمادت بي الأرض، ثم سري عني لما رأيت بصحبتهم رجلا أنيقا تبين أنه السفير الليبي جاءني برسالة من القذافي يريد مني العمل معه مستشارا في ليبيا، وسلمني هدية فيها بضعة آلاف من الدولارات الأمريكية وعطورا وملابس راقية، فاعتذرت عن المنصب بسبب تمريض الوالدة وقبلت الهدية وكنت في أمس الحاجة إليها وانقضى ذلك العام والذي يليه وأنا وأسرتي في بحبوحة. وأثنى على حمدي بن مكناس يرحمه الله وقال إنه كان السبب في كل ذلك.
كان الشنافي قد تنازل عن دفتر التقاعد (كرنت رترت) لأسرة فقيرة لا معيل لها رغم حاجته هو لدخل ينفق منه فلما وجدت الأسرة دخلا أرادت إرجاع الدفتر إلى صاحبه فرفض قائلا إنه (ما يرجع افمعطاه) وكان ذلك الموقف في غاية الكرم بل هو الكرم الحقيقي.
أول ما لقيت الشنافي عندما زرته ليلا وتأخر عني ابن عمه محمد ولد باهداه أدبا معه ولم يدخل بل رجع إلى منزله وبقيت مع الشنافي في جدل لا ينتهي أوله استفزاز وآخره طرائف وملح، ورجعت إليه في اليوم الموالي زوالا وتحدثنا في أمور عامة وبقيت معه إلى المساء وأصر علي أن أبقى معه إلى أن يحين موعد رجوعي إلى بوتلميت بقيت وكنت كتبت مائتي سؤال في شتى المواضيع التاريخية وأعجب بها غاية الإعجاب حتى قال: لقد استعدت ذاكرتي بسبب أسئلتك الدقيقة والشاملة، فقلت العفو، قال: يبدو أنك كنت تجهز لهذا اللقاء، وكان يجيب حسب علمه أو قراءاته وأحيانا يقول: لا أعرف أو ليس علم بذلك إلا ما ذكره فلان في المصدر كذا أو في المرجع كذا.
وكان الكثيرون من الموريتانيين يزورون الشنافي في عين السلامة لكنهم لا يقدمون له عونا ولا يعرفون له فضلا في كتاباتهم، فلما توفي كان بعضهم يبكي حزنا مصطنعا في المسجد في تمثيل هندي رخيص وآخرون يكتبون عن “صحبتهم” مع الشنافي وعن مراسلاتهم وعن علاقاتهم “الدولية” و النووية؟ وغيرهم يمدحه ـ وهو بالمدح خليق ـ لكنهم لم يعرفوه ولم يصاحبوه.
حدثني عن حياته في صغره وعن درْسه في السنغال وفرنسا وعن مواقف مختلفة.
وقال أنه يعرف أسرتي في مدينة (لعيون العتروس)وكان جدي سيدي ولد السالم من خُلّص أصدقائه وكان الشنافي يصفه بحكيم أهل لعيون، وكان والدي محمد فال أطال في عمره قال لي لقد درست مبادئ النحو وأنا في سن صغيرة مدة أسابيع على صاحبك ولد مولود.
ثم حدثني عن عالم مدينة (تگبه) في الطويل جنوب الحوض وهو جدي الطالب بوبكر المشهور في المصادر التاريخية (الحوليات) بالطالب بوبكر الإگداوسي توفي 1181هـ\1766
نسبة إلى مدينة تاگداوست وقال إنه العالم العربي (البيظاني) الوحيد المنسوب إلى تلك المدينة التي اندثرت في القرن الثامن الهجري ونشأت تگبة بدلا منها على طريق القوافل بين زارة جنوبا وتيشيت شمالا.
سألته ما وجه اهتمامك بالرجل قال لقد سمعت عنه أخبارا غريبة عن فتاويه المختصرة والرصينة وعن صدقه وصراعه مع فقهاء قريته فتنقلت شخصيا إلى قرية تگبه وحصلت على بعض فتاويه على (كالك: شريحة ورقية) لم أخبره أن الرجل هو جدي السابع و وبقية فتاويه لدى أهل تجگجة في مكتبة أهل الطالب محمد التي يديرها الأستاذ سيدي ولد النمين، وكتب عنه الفرنسيون دراسة مستفيضة في بحث منشور عن تگبه و تاريخ الجنوب الشرقي الموريتاني وهي متداولة.
كان مهتما بالرجل اهتماما زائدا فسألته عن السبب قال إنه ذكره في مقاله المنشور عن محاور تاگداوست، لكنه كان يزمع تخصيص بحث مستفيض عنه وعن فروع عائلة أحفاده المتفرقين في الحوض وفي تيندوف بالجزائر ومنهم حفيده من ابنه اعلي بن الطالب بوبكر ومنه أسرة أهل سيدي بوبكر وأخواله وأخوال آبائه من الرقيبات ويتولى اليوم مدفعية البوليساريو.
لكن سبب الاهتمام كما قال هو أنه لا يهتم بشهرة البيظاني إلا إذا كان متميزا بأمر نادر بين البيظان مثل أن الطالب بوبكر كان لا يجامل في الحق وقال لي ـ ربما مجاملة ـ : فيك منو شي؟ ثم عرف قرابتي منه بعد ذلك.
وللمناسبة لا يعرف غالبية الموريتانيين أن الشنافي كان على جانب عظيم من الإخبات والعبادة البعيدة عن الرياء وكان صاحب فراسة صادقة لا كفاء لها سأبوح بنزر منها مستقبلا وعن أمور حصلت وأخرى لم تحصل في حديث عجيب.
سألته عن نسب أولاد انتشايت فحدثني عن وثيقة عثر عليها عند ضريح مريم منت أربيه، وقال إنها وثيقة أقرب إلى الدقة ثم قال لي تعرف أن بيني وبينك رحما؟ فنفيت له علمي بأي قرابة تجمعنا فقال: إن بين جدي انتشايت وجدك الطالب بوبكر قرابة وثيقة ولم يفصح عن فحوى تلك القرابة لكنه حدث بها بعض أقاربه، وكان يقول إن البيظان قبيلة واحدة لكن مشكلتهم عدم التعارف فيما بينهم بسبب الانقطاع المكاني أو قلة العلاقات التجارية، ومن ذلك أن القوافل كانت تتردد بين الشمال والجنوب وليس بين الشرق والغرب وهذا ربما من أسباب “الحساسية” التي وجدت بين “أهل القبلة” وأهل الشرق وقال ستزول تدريجيا تحت تأثير التعارف والتواصل… وهذا يصدق على كل الجهات والجماعات.
حدثني عن تأسيس الدولة وباح لي بخفايا لا يعرف إلا هو والمختار وكشف لي عن الأنساب الحقيقية لأهل الخيام وعن ما يراه سبيلا لنجاتهم من المحن.
في الحلقات المقبلة سأسرد جانبا من كل ذلك وفق ما هو ممكن مع الاختصار غير المخل.

الدكتور:حماه الله ولد سالم

زر الذهاب إلى الأعلى