قصاصة (7)/ قصة حدثت معي!/محمد الامين الفاظل
قصاصة (7)/ قصة حدثت معي!
في العام 2000 كنت أدرس قسما لمحو الأمية في مدينة سيلبابي، وكان القسم يضم بعض النساء الأميات من بينهن من لم تكن تحفظ الفاتحة، رغم أنها بلغت من العمر عتيا.
ولم أكن بطبيعة الحال أكتب لهن على السبورة ” في كل صباح أغسل وجهي بالماء والصابون” أو “قطتي جميلة” أو “اشترى لي أبي محفظة جديدة”، كما كان يفعل الكثير من مدرسي الكبار في ذلك الوقت.
لقد كنت أحترم عقول “تلميذاتي” رغم أميتهن، وكنت أحاول أن أدرسهن بطريقة تتناسب مع أعمارهن وعقولهن، وأتذكر أني حاولت في حصة من حصص التربية المدنية ـ خصصتها لأهمية المحافظة على نظافة الشارع والأمكنة العامة ـ أن أعدد لهن بعض المجالات التي يمكن لهن أن يتصدقن من خلالها دون أن ينفقن مالا، كنت أريد أن أصل إلى أن إماطة الأذى عن الطريق صدقة، لأجعل من ذلك مدخلا للدرس.
قلت لهن بأن في كل تسبيحة صدقة، وفي كل بسمة في وجه أخ صدقة، وفي الكلمة الطيبة صدقة، وفي إعانة الرجل على ركوب دابته صدقة، وهكذا….
وفي بداية الحصة التي أعقبت تلك الحصة، حاولت أن أذكر قليلا بحصة التربية المدنية، فوجدت أن أغلب “التلميذات” حاولن أن يطبقن شيئا مما جاء في الدرس : إحداهن ظلت تسبح على طول المسافة الفاصلة بين منزلها والسوق، وواحدة نظفت المسجد الذي يجاور سكنها، ثالثة ابتسمت كثيرا في وجه كل من قابلته بعد الحصة، وهكذا…
وكانت المفاجأة هي أن الأستاذ هو وحده الذي لم يحاول أن يطبق شيئا مما جاء في درسه!!!!
وأتذكر أيضا أنه في بعض الحصص كانت تتغيب بعض “تلميذاتي” لأسباب صحية، وكنت أأسف لذلك، لأني فعلا كنت أحبهن وأقدرهن، ولكني لم أفكر يوما في زيارة إحداهن أثناء مرضها، ولما مرضت أنا فوجئت في يوم من الأيام بزيارة “تلميذاتي” لي حيث أسكن، وكانت من بينهن عجائز يصعب عليهن المشي لمسافات طويلة.
ولما قلت لهن بأن زيارتهن لي لم تكن ضرورية، قالت لي إحداهن ألم تقل لنا ، في إحدى الدروس، بأن هناك سبعين ألف ملك ستصلي علينا عندما نزور مريضا؟
بعض الناس يستفيد كثيرا مما تعلم، حتى ولو كان ما تعلم قليلا، لأنه يحاول دائما أن يطبق ميدانيا ما تعلم..
وبعض الناس لا يستفيد إلا قليلا مما تعلم، حتى ولو كان ما تعلم كثيرا، لأنه لا يحاول أن يطبق في حياته ما تعلم..
لقد كنت أعتقد بأني في فصل محو الأمية سأعلم ولن أتعلم، ولكن الذي حدث هو أني تعلمت من بعض النساء الأميات، أكثر مما علمتهن، بل إن ما تعلمت منهن كان أفضل بكثير من كثير مما تعلمت في الجامعة.
تعلمت من “تلميذاتي” بأن مصادر التعلم متعددة ومتنوعة، وأن الأمي يمكن أن يكون أستاذا للمتعلم، كما يمكن للأعمى أن يقود بصيرا كما حدث مع الشاعر بشار بن برد:
أعمى يقود بصيرا لا أبا لكم * قد ضل من كانت العميان تهديه
وتعلمت منهن بأنه يمكننا في كل وقت أن نستفيد عمليا مما تعلمنا، وفي كل المجلات، وأننا عندما نحاول ـ وبشكل جاد ـ أن نطبق في حياتنا شيئا مما تعلمنا فستكون النتائج باهرة.
ولقد أعانتني الطالبات على فهم ما روي عن أَبِي عَبْد ِالرَّحْمَنِ السُّلَمِيَِّ:”إِنَّمَا أَخَذْنَا الْقُرْآنَ عَنْ قَوْمٍ أَخْبَرُونَا أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهُنَّ إِلَى الْعَشْرِ الْأُخِرِ حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِيهِنَّ مِنَ الْعَمَلِ، قَالَ: فَتَعَلَّمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا.”
وبالتأكيد فالاستفادة عمليا مما تعلمنا لا تنحصر فقط في العلوم الشرعية، بل تشمل كل العلوم، وكل المجالات..
فلنحاول أن نتوقف ـ قليلا ـ عن مواصلة قراءة هذا الكتاب الضخم، حتى نطبق شيئا مما قرأنا منه ..
من أرشيف الصفحة: نُشر في مثل هذا اليوم من العام 2012
محمد الامين الفظل