رسالة من اترامب

رسالة من اترامب

تبدو الفرضية التقليدية التي تقول إن كثرة الإقبال على صناديق الاقتراع دائما تصبّ في صالح الديموقراطيين في الولايات المتحدة، لأن قاعدتهم لا تنقصها إلا التعبئة، لأنها تزيد على القاعدة الجمهورية بحوالي 10% من عموم الناخبين، ليست دقيقة (أو لم تعد كذلك على الأقل). فقد صوت الشعب الأمريكي في هذه الانتخابات بنسب كبيرة لم يصوّت بها منذ أكثر من قرن من الزمن.

لقد بات من الواضح أن المواطنين الأمريكيين (الذكور البيض) لم يعودوا هم وحدهم من يمارسون ‘التقية’ السياسية في الولايات المتحدة. حيث لا يحبون أن يظهروا خلال النقاش العام ك ‘عنصريين’، فيتبنون آراء أكثر ليبرالية، ويعطون إجابات محرّفة لاستطلاعات الرأي، وفي الأخير يصوتون مع المحافظين. بل إن الانتخابات الحالية ستظهر (بعد تكشف نسبها الفئوية لاحقا) أن جميع الأمريكيين البيض، رجالا ونساء، صوتوا بدرجة غير مسبوقة لصالح اترامب وحزبه المحافظ.

ستكون المأمورية القادمة لترامب (الذي بات الأوفر حظًا في الفوز) كافية لإحداث تغييرات جذريّة لما بقي من الوجه السياسي للولايات المتحدة. وستقود أمريكا العالم، باعتقادي، إلى عهد جديد من تزايد الخطاب الوطني والعنصري المتطرف، ومن تراجع ‘القيم الكونيّة’ (حيث سنكون “أقل سذاجة فيما يتعلق بالعولمة”، على حد تعبير وزير الخارجية الألماني السابق زيغمار غابرييل)، وسينتعش عداء المهاجرين والمسلمين والفئات الملونة (وحتى اليهود) في أمريكا ونظيراتها من دول الغرب.

ولكن الأهم بالنسبة لبلدنا، وخاصة بعد دروس كورونا، أننا مقبلون، من الناحية الاقتصادية، بشكل متسارع على انكفاء البلدان ذاتيا على إمكاناتها المحليّة. وسياسيا، على انتعاش التيارات الوطنيّة والقوميّة في الدول الديموقراطية، وتقطّع أوصال المشاريع والمنظّمات القومية-العربية والإسلامية، لصالح الأجندات القُطرية والتكتلات الإقليمية المبنية على المصالح الجيوسياسية.

وقد آن لنا أن نستخلص العبر (حكومة ومعارضة)، وأن نعي رسائل هذه ‘الترندات’ العالمية التي تصلنا تباعا من الشرق والغرب. وأن نعلم أن لا سبيل للنهوض إلا بالتركيز على على البناء الداخلي؛ ترسيخًا لروح التلاحم والمواطنة، ومحاربة جدّية للفساد والمحسوبية، وأخذًا بأسباب الاكتفاء الذاتي (غذائيا وصحيا وتعليميا على الأقل)، هذا فضلا عن العناية بالطبقات الهشة الأكثر عرضة للمخاطر السياسية والاقتصادية والأمنية، وخاصة أثناء الأزمات.

الدكتور :عبدالله ولد بيان

زر الذهاب إلى الأعلى